الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

مؤيدو الديكتاتورية


اتعجب كيف لمن نادى بالحرية مرةً أن يرضى بالاستبداد ولمن ثار ضد الظلم أي يخنع أخيرا للديكتاتورية, بل ويؤيدها, ظانا أنه يؤدي عملا جليلا. هل ما كان يطلبه قديما حقا حرية؟ أم إنه خُدع ببضاعة زائفة روجوا لها أنها حرية؟

لن أطيل الحديث, فقط أحاول تفسير أسباب قبول ديكتاتورية إعلان مرسي الديكتاتوري مِن قِبل أولئك الذين ظنوا يوما انهم يريدون "حرية". كما حاولت قبلا تفسير مواقف مَن قبلوا مقتل مئات الشباب ومَن أهانوا ست البنات.

سأقسِّم من خنعوا للاستبداد الجديد لطوائف, مُبيّـنا وموجِزا أسباب قبول كل طائفة لذلك الاستبداد .. وإن وجدت في كلامي إهانة شخصية تذكر أن لكل قاعدة شواذ, تستطيع ان تعتبر نفسك من استثناءات تلك الطائفة, والموضوع ليس شخصي على أي حال.

1- الاخوان المسلمون:
أو الاخوان المُسيَّرون, أو الاخوان منزوعي الإرادة. نزعوها بأنفسهم, أو انتزعت منهم, ووضِعت بين يدي الرأس المُتسِّلط, أو مكتب الإرشاد كما يسمونه. يريدون كما يريد, اذهب فيذهب, جيء فيجيء, اغضب فيغضب, اهدأ فيهدأ. ليس لهم إرادة في ذواتهم إلا ما يراد لهم أن يريدوا. أولئك قبلوا الاستبداد لأنه قيل لهم: اقبلوه.

2- السلفيون:
أو قل حلفاء الاخوان في العموم, وأغلبهم من قادة القوى السياسية الـ"إسلامية", أو هكذا يدعون أنفسهم. رفقاء قادة الاخوان في درب سرقة الثورة, وتفريغها, وتشويه صورة أبطالها, والتحالف مع أعدائها, وتسفيه شهدائها, والدفاع عن فاقئي عينها . بدأوا معهم رحلة الخداع في نعم الاستفتاء, مرورا بكل أشكال التكفير والاستعداء, وقوفا عند مذابح ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد وشارع منصور, وصولا لسلق الدستور. أولئك قبلوا الاستبداد لأنهم وعدوا بقبوله.

3- المتوهمون:
أو المخدوعون. يخوضون حربا ضروسا حدودها داخل رؤوسهم. نهارهم وليلهم يصارعون أشباحا, لا يراها غيرهم. مؤمنون وواثقون من المؤامرة الكونية ضدهم, أكثر من إيمانهم بوجودهم. يخشون أن يلقوا سيوفهم لئلا يطعنهم العدو الخفي في ظهورهم.  أولئك قبلوا الاستبداد خوفا وذعرا لئلا يتمكُّن منهم أعدائهم.

3- المنافقون:
أو المطبلاتية. وهم بيننا في كل زمان ومكان. يبحثون عن صاحب السُلطة ويتشممون رائحته, فيداهنونه, ويتقربون إليه, متطلعين لعطاياه, أو متجنبين بطشه. يدافعون عن سقطاته, ويبررون خطاياه, يمدحونه ويعظمونه ويألهونه من دون الله. أولئك قبلوا الاستبداد لأن ليس لهم ربّاً إلاه.

5- المائعون:
أو الضعفاء. يذهبون حيث يأخذهم التيار, يضعون كرامتهم تحت حذاء الاستقرار. كما يسير الاصدقاء فهكذا يسير. أو ينتظر من يغلب, فيؤيده, فيفرح بكونه مِن الغالبين. قد يرفض اليوم ويؤيد غدا, أو يؤيد اليوم ويرفض الغد ويؤيد بعد غد. مائعون, غير ثابتين, مبادئهم تائهه وسط الضجيج. أولئك قبلوا الاستبداد لأنهم هكذا وجدوا من حولهم يفعل.

6- الكارهون:
يرفضون الاستبداد لكن لا يقدرون إلا على قبوله, لأنهم يكرهون رافضيه. لن يقف بين من يكرهم وإن علم انهم على حق. يفضّل أن يلعنهم وإن عرف انه على ضلال. إن قالوا يمين, قال يسار. وإن قالوا سيء قال جيد. هو ليس فعل بل ردة فعل. أولئك قبلوا الاستبداد لأن من يكرهونهم رفضوه.


إن كنت ممن يحبون الحرية, ولكن تتقبل الاستبداد الجديد, كحل "مؤقـت" أو كثمن لتطهير القضاء أو لبناء مؤسسات الدولة والوصول للديمقراطية إلى أخرها من تلك الترهات, فعليك أن تدرك أن:
لا تتحقق الديمقراطية بالديكتاتورية, ولا تُنشد الحرية بالاستبداد, ولا تُبنى الدولة باللادولة. فقط, كن صريح مع نفسك وضعها في أحد طوائف ميؤيدي الديكتاتورية.

أو عد لرشدك وكن بين الاحرار

الاثنين، 5 نوفمبر 2012

المعنى

سـ : إذا سمعت أو قرأت عبارة ما, كيف تحكم إذا كانت صحيحة أم خاطئة؟
جـ : تكون العبارة صحيحة إذا كانت تعبر عن الواقع, وخاطئة إذا لم تكن تعبر عن الواقع.

إذا سأل أحدهم في أي عام قامت ثورة 1919. وقيل له: في عام 1337.
الحكم المبدأي أن الإجابة خاطئة بل وغبية.  لكن عليك أن تسِّلم أنها صحيحة إذا علمت أن العام في السؤال كان ينسب للميلاد بينما في الإجابة نُسب للهجرة.

فماذا نعني بأن ثورة 1919 قامت في عام 1919 للميلاد أو 1337 للهجرة, حتى نحكم بأنها عبارة صحيحة؟
الـرقم 1919 في ذاته ليس إلا رقم, مجرد, بلا معنى حقيقي, لكنه هنا يستمد معناه من خلال تعبيره عن فترة زمنية محددة, بدأت منذ حدوث حدث معين وهو ميلاد المسيح في بيت لحم وانتهت بحدوث حدث معين آخر وهو خروج المصريون غاضبون في أنحاء الجمهورية احتجاجا على الإنجليز وغضبا لنفي سعد زغلول. وكل وِحدة في هذا الرقم تعبر بدورها عن فترة زمنية محددة, وهي الفترة ما بين توسط نجم الشعري اليماني السماء مرتين متتاليتين, أو تعاقب فصول السنة الأربعة في دورة كاملة, وبعد كوبرنيقوس, أصبح هناك تعريف علمي لتلك الوحدة وهو الفترة الزمنية اللازمة لتتم الأرض دورة كاملة حول الشمس.

وما قلناه عن 1919 نقوله عن 1337 لكن بعد تغيير بعض المعاني, وهي حدث البداية, والفترة الزمنية التي تعبر عنها كل وِحدة في الرقم, ألا وهي, ميلاد القمر وموته من هلال إلى محاق 12 مرة متتالية, أو علميا هي إتمام القمر 12 دورة كاملة حول الأرض.

وهنا نصل للاستنتاج الأول وهو: الحكم بصدق العبارة أو كذبها لا يتوقف على كلماتها, بل على المعاني التي تعنيها هذه الكلمات.
إن كنت توافقني هذا الاستنتاج استمر معي..

* * *

سـ: هل للكلمات معاني مطلقة؟ أو بالبلدي, هل المعنى لازق في الكلمة؟

وأنا صغير كنت بلعب لعبة مع نفسي, اختار اي كلمة, شجرة مثلا, واقعد اقولها كتير, شجرة شجرة شجرة ... اقعد 10 دقايق أو ربع ساعة افضل اقول شجرة شجرة شجرة, وعشان ما ازهقش ممكن اركب الكلمة على لحن أغنية واقعد اقول واعيد وازيد شجرة شجرة شجرة ..., وبعد ما اخلص اهدا كدة لمدة ثواني واغمض عيني, بعد كده افتح عيني فجأة واقول شجرة!. ساعتها بحس احساس مخلتف عن الاحساس اللي كنت بحسه زمان لما بسمع "شجرة", بحس ان عقلي مابقاش يتعامل مع الكلمة بنفس البساطة اللي كان بيتعامل بيها مع نفس الكلمة زمان. وكأني بتكرار الكلمة كتير, اجبرت عقلي على فصل الكلمة عن معناها. معرفش إذا كانت ديه حاجة خاصة بيا وحدي ولا ديه خاصية جديدة في العقل البشري اكتشفتها! .. عالعموم ممكن تجرب وتقولي.

اللي عايز اقوله ان الكلمة حاجة, ومعناها حاجة تاني. فالكلمة وعاء المعنى.

فمثلا كلمة شجرة ( الشين والجيم والراء والتاء المربوطة) ليس فيها أي دلالة عن ذلك الكائن الحي الذي يتكون من جذر وساق وأوراق, ويمتص الماء والأملاح من التربة ويقوم بعملية التمثيل الضوئي ويحول ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين.. تلك الدلالة ليست موجودة في الكلمة ذاتها بل في عقلي وعقلك, تلك الدلالة اكتسبناها أنا وأنت عن طريق المعرفة.

ولكي أدلل على ذلك ادعوك لتأمل تلك الكلمة: () تأملها جديا وحاول أن تستنبط ما تعني, بالطبع ستفشل لأنها لا تمثل لك إلا طلاسم وهي بلا معنى في ذاتها, لكنها تعني للصيني شجرة لأنه لديه تلك المعرفة التي تربط ما بين هذا الشكل وبين الكائن الحي الذي .. إلخ.

والآن أصل للاستنتاج الثاني هو: لا يوجد ثمة علاقة عضوية بين الكلمة ومعناها, بل هما شيئان مختلفان, تربطهما علاقة توجد في العقل تُكتسب عن طريق المعرفة.
إن كنت توافقني الاستنتاج الثاني استمر معي..

* * *

سـ: مادامت الكلمة شيء ومعناها شيء آخر, هل من المقبول تغيير معاني الكلمات؟ وإن كانت الإجابة بنعم , فإلى أي مدى؟

سوف أضرب هنا مثالين:
مثال (1): تخيل طالب في الصف الثاني الإعدادي يحل مسألة في الجبر يحسب فيها متوسط عدد ضربات قلب الفيل في الدقيقة وتوصل لنتيجة وهي انها = (س / 12) .. حيث (س) تساوي متوسط عدد ضربات قلب الفأر في الدقيقة.
هنا نجد أن الطالب وضع معنى جديد لـ(س) غير المعنى المألوف, وهذا التغيير في المعنى مقبول.

مثال (2): ذهبت فتاة للخياطة في ليلة رأس السنة وطلبت منها تفصيل فستان للعيد, وعندما سألتها الخياطة عن طولها أجابت: طولي 85 كيلومتر .. حيث (الكيلومتر) يساوي طول عقلة ونصف من سبابتي.
تعريف الفتاة الجديد للـ(كيلومتر) غير مقبول للفطرة السليمة, وإن حدث هذا الموقف في الحقيقة سيُحكم عليها إما بالخبل أو الاستظراف.

والسؤال الآن: لماذا تقبل الفطرة السليمة المعنى الجديد في المثال الأول ولا تقبله في المثال الثاني؟

كل معنى يستمد مشروعيته عن طريق العقول التي تحتوي على العلاقة بينه (أي المعنى) وبين الكلمة التي تحتويه. أو بكلامات أخرى هناك معاني يتم تعريفها على مستوى الفرد, وهذا هو الحال في المثال (1) عندما اختار الطالب الكلمة "سين" ليعبر عن أمر ما. وهناك معاني لكلمات معروفة على مستوى مجموعة من الناس, فمثلا الكلمة "يكش" لها معنى عند بعض المصريين, وقد يختار شعب من الشعوب أن يمنح لتلك الكلمة معنى آخر وهذا لا يضيرنا في شيء.

وهناك كلمات لها معنى على مستوى اللغة, مثل كلمة "" فهي ذات معنى عند الصينيين لكن عند غيرهم بلا معنى. وهناك كلمات لها معنى موحد على مستوى العالم مثل "كيلومتر" ولا يجوز لأحد تغيير معناها كما يحلو له وإلا اختلّت المسافات وفسدت القياسات, ولأجل هذا, يوجد معاهد متخصصة مسؤوليتها وضع تعريفات واضحة وجلية للكلمات ذات المعنى العالمي, كلٍ في مجاله. وحيث أنه لا توجد كائنات عاقلة خارج كوكبنا –على الأقل هذا ما نعرفه الآن- فسأعتبر الكلمات العالمية هي الأوسع نطاقا.

بيد أن معاني الكلمات لا يتوقف فقط على المكان, بل هناك معاني تتوقف على الزمان, فهي تولد وتموت. فمثلا كلمة "قبل الميلاد" لم تكن ذات معنى قبل ميلاد المسيح. ومعنى كلمة "أثير" مات بعد اكتشاف العلماء أن ما يملأ المسافات البينية في الكون هو الفراغ, أي اللاشيء.

وهنا نصل للاستنتاج الثالث وهو: من حق جماعة من البشر تغيير معنى كلمة, إذا, وفقط إذا, استمدت تلك الكلمة معناها من خلال تلك الجماعة مكانا وزمانا.
وهذا هو الاستنتاج الأخير.

* * *

بعد الوصول للاستنتاجات الثلاثة وتوضيح أسبابها, اعتقد أن الوقت قد حان كي أقفز قفزة أخرى تجاه الهدف المنشود من المقالة وأقول أن: الكلمة مظهر, والمعنى جوهر.



لماذا؟
لان الكلمة ليست إلا نغمة مسموعة, أو شكل مقروء, تدخل إلى العقل عن طريق أحد الحواس الخمسة, فيستقبلها العقل, ويبحث في معارفه حتى يجد ذلك المعنى الذي تدل عليه تلك الكلمة, فيعقله, ويدركه, ويفهم القصد من تلك الكلمة.

فالكلمة مشير والمعنى مشار إليه. الكلمة محتوي والمعنى محتوىَ. الكلمة أداة والمعنى غاية. الكلمة وسيلة والمعنى هدف. الكلمة مظهر والمعنى جوهر.

أترك الآن النظريات المجردة وأهبط إلى أرض الواقع حيث كنت واقفا .. على تلك البقعة من الأرض التي اصطُلح تسميتها مصر.
نحن في مصر نعاني من مرض, مرض عضال, وهو الاهتمام بالمظهر دون الجوهر.

كيف؟
رأينا في زيارة مرسي الأخيرة لاسيوط كيف تم تجميل شارعين في المدينة حتى تظهر بمظهر حضاري, غير مهتمين أن المحافظة بها أعلى معدلات فقر في الجمهورية.
وهذا ليس جديدا, فمنذ أن كنا تلاميذ كنا نهتم أن نظهر بمظهر جميل إذا زار مدرستنا وفد من الإدارة التعليمية مهملين مستوى تعليم الطلاب المتدني. وكذلك الحال في الكليات والمعاهد العسكرية, ليس المهم مستوى التدريب بقدر الاهتمام أن العرض الذي سيشاهده القائد الأعلى يكون على درجة عالية من الإتقان.. وهكذا تستطيع أن تضرب مئات الأمثلة من حياتنا اليومية نهتم فيها بالمظهر ونهمل الجوهر.

وفي الدين أيضا, ما نهتم به إطلاق اللحى وارتداء ما نعتقد انه الزي الديني, وأداء الصلاوات في مواقيتها والإلتزام بالأصوام, ونهمل جوهر العبادة وهو التقرّب الحقيقي لله. وفي هذا صب المسيح الويلات على المهتمين بالمظهر دون الجوهر في الأمور الدينية حين قال: ويل لكم لأنك تعشّرون النعنع والكمون وتركتم الحق والرحمة والإيمان, ويل لكم لأنكم تصفّون عن البعوضة وتبلعون الجمل, ويل لكم أنكم تشبهون قبور جميلة من الخارج ومن الداخل مملوءة نجاسة.

حسنا حسنا ,لست أنوي تحويل المقال لخطبة دينية, فقط أريد أن أبرهن ان فيرس الاهتمام بالمظهر دون الجوهر أصابنا في كل شيء.

* * *

لذلك نحن نهتم بالكلمة ولا نهتم المعنى, نؤلف معاني على هوانا للكلمات ونصدقها, ونغير معاني كما يحلو لنا ثم نتخذ مواقف إذاء تلك الكلمات تبعا للمعاني التي ابتدعناها وصدقناها باطلا.

فتجد أحدهم مستعد أن يبذل حياته من أجل كلمة, وأخر يهدد بأنهار من الدماء من أجل كلمة, وأخر يخوِّن ويكفِّر ويحقِّر ويستعدي لأجل كلمة, وإذا سألته عن معناها فتح فمه كببغاء, وردد كلمات سمعها من ببغاء آخر لا يتعدى منطقها حدود فمه.

هو يكره العلمانية لكن ما هي العلمانية؟ لا يعلم. ما هي أنواعها؟ لا يعلم. هل هناك درجات ومذاهب ومدارس للعلمانية؟ لا يعلم. لكنه يكرهها بنفس درجة كرهه للبيرالية .. التي لا يعلمها أيضا... (للاسف الليبرالية ليست هي ان أمك تقلع الحجاب أيوة أمك انت, بل هو مصطلح عالمي مثله مثل الكيلومتر!).

حرب ضروس تدور رحاها من أجل كلمة في الدستور. ماذا تعني؟ لا يعلم. لكنه يعلم أنها لابد أن توجد حتى يطبق الشريعة؟ لكن كيف سيطبقها؟ لا يعلم. من سيطبقها؟ لا يعلم. متى سيطبقها؟ لا يعلم. وما هي خطوات العملية لتطبيقها؟ لا يعلم. كل ما يعلمه هو صورة ذهنية يوتوبية مثالية يتحسس آثارها فيما قيل له عن الماضي.

ومن المثير للضحك والشفقة على الحال في مصر أن الجميع يريد مصر دولة مدنية, لكن ما هي الدولة المدنية؟ فلا أحد يعلم.
فالدولة المدنية عند المدعوين سلفيين هي تطبيق الشريعة بحذافيرها, وعند المدعوين اخوان هي الدولة التي يحكمها رئيس منتخب (بشرط يكون مرسي), وعند المدعوين ليبراليين هي الدولة التي تحتكم لقوانين غير دينية, وعند المدعوين أقباطا هي إلتجائهم لقوانينهم في الأحوال الشخصية.. وهكذا يهيم كل فريق في معانيه الخاصة والنتيجة هي ما نراه يحدث الآن على الساحة السياسية في مصر...عبث.


عزيزي المواطن المصري الفتّاي: إذا سمعت عن كلمة ولست تعلم المعنى الرسمي لها, فلا تعتقد ان معرفتك لها هي أكثر من معرفتك لـ (自由主義) ولا تصدق ببغاء يتحدث بثقة مدعيا إمتلاك اليقين.
عزيزي المواطن المصري الفتّاي: حكمك على أي قضية بالصدق أو الكذب هو حكم بلا قيمة مادمت لا تعرف المعاني المصطلحة لكلمات تلك القضية وليس من حقك تغيير معاني كلمات اتفق العالم على تعريفها طبقا لهواك أو معارفك السطحية.

أعزائي المواطنون المصريون الفتّايون (وأنا أولكم): كفّوا عن العراك والسباب من أجل أشياء لا تعلمونها, واقضوا أوقاتكم في تحصيل المعرفة, ثم تعاركوا, لعل عراككم يأتي بفائدة... يكش نفلح.

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

أفكار متعسرة - هل أنا مخير أم مسير؟ ومبدأ اللا يقين


زمان وانا صغير كنت بقول لنفسي: مش ربنا عارف كل حاجة؟ عارف كل حاجة حصلت وهتحصل؟
طيب أنا دلوقتي لو مسكت بونبوناية وقررت اني أحطها في إيد من إيدا .. هل ربنا هيكون عارف مسبقا أنا هحطها في أنهي إيد؟
ماهو لو ربنا كان عارف مسبقا اني هحطها مثلا في إيدي اليمين, فتفكيري ملوش قيمة! لأني لو فكرت دقيقة هحطها في اليمين, وإذا فكرت ساعة هحطها في اليمين, وإذا قعدت افكر 3 ايام برضة في آخر هحطها في إيدي اليمين .. وبما أن ربنا عارف كل حاجة مسبقا فأنا مش مخير!

بس في نفس الوقت .. أنا في كل لحظة من لحظات التفكير أملك الحرية الكاملة اني أحطها في ايدي اليمين أو الشمال, ومفيش أي قوة تؤثر عليا أو تدفعني ان احطها في ايد معينة .. إذا أنا مش مسير .. انا مخير!

الأفكار ديه كانت في دماغي وانا صغير ,, جايز اكون ماكنتش اعرف مصطلح "مخير ومسير" وجايز أكون ماكنش عندي القدرة الكافية إني اصوغ الإشكالية في الفاظ لكن كانت في عقلي ... 
ودلوقتي لما كبرت ومعرفتي زادت وصلت لحل اعتقد انه مرضي ليا شخصيا نوعا ما .. قلت أشيره يمكن رينا يكون فتح على حد يقولي رأيه ينفعني بيه

بس قبل ما أقول الرأي اللي انا مقتنع بيه حاليا هقول مقدمة بسيطة كده لتاريخ الرأي ده..
زمان في العصور القديمة كان الناس بيؤمنوا ان فيه قوة علية مسيطرة على الكون ومتحكمة فيه .. فيه شعوب آمنت ان القوة ديه هي الله, وشعوب قالت القوة ديه هي الآلهه, وشعوب قالت القوة ديه هي الطبيعة, وشعوب قالت النار أو الشمس أو القمر وشعوب رفضت تسمية القوة العليا ديه لكنها آمنت انها موجودة.

كانت الشعوب بتفسر البرق والرعد والمطر وزلازل والبراكين والفيضانات والأمراض انها إرادة القوة العلية وان الظواهر ديه بتحصل في وقت ما لغرض معين تعلمه القوة العلية.
فضل الحال على كده لحد انفجرت الثورة العلمية على إيد جاليليو وكبلر ونيوتن في القرن السبعتاشر ..
الثورة العلمية مش نظريات وقوانين وتجارب واختراعات زي ما ناس كتير فاكرة .. لأ .. الثورة هي "فكرة" .. فكرة أن الكون يخضع لقوانين

فيه قوانين بتحدد مسارات الكواكب وحركاتها .. قوانين بتحدد سرعة الأجسام .. الجسم المقذوف نقدر بالقانون نعرف هيكون فين وامتى وازاي بكل دقة.. قوانين بتحدد كمية الطاقة وقوانين بتحدد شدة الضوء وقوانين للأطياف وقوانين للأصوات كل حاجة في الكون تخضع لقوانين صارمة .. والكون ملهوش الحق ولا القدرة ولا الجرءة انه يكسر قانون من القوانين.


زادت ثقة الانسان بنفسه وبدأ يعتقد انه في مقدورة يعرف أي حاجة, أي حاجة, في أي وقت سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل إذا توافرت عنده المعطيات المناسبة  والقانون الصح.

بدأ بعدها الإنسان يكفر بالقوى العليا .. خلاص ماعدش ليها لزمة ..وانتشر الإلحاد.. زمان كان فاكر ان الكون يخضع لإرادة عليا طلع بيخضع لقوانين رياضية وفيزيائية ويقدر يتنبأ بالطقس والزلازل والأعاصير, ومش بس كده ..

الإنسان زاد جبروته وغطرسته وبقى بيعتقد ان مش بس العلوم الطبيعية, لأ , كمان العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية كلها تخضع لقوانين وبدأت تتطور نظريات علم النفس اللي بتفسر السلوك الإنسان وكان ليها قدرة على التنبؤ بسلوك الأفراد بقدر معين من الدقة , برضة إذا توافرت المعطيات والقانون.

فضلت البشرية كده تتكبر وتتكبر وتتغطرس وتنتفخ وتتشامخ لحد ما خدت على دماغها ..
مين اداها على دماغها؟
قولت انت مين؟
فكر كمان شوية !!
.
ماكس بلانك


ماكس بلانك ينسب ليه الفضل الأكبر في نظرية الكم .. كان من أهم نتائج نظرية الكم هو مبدأ "اللا يقين" اللي صاغه هاينزبرج
Uncertainty principle

هو مبدأ علمي بحت, لكن العلم والفلسفة توأم ملتصق وبالتالي كان ليه بعد فلسفي خطير.
المبدأ بيقول ان الإنسان ليس لديه القدرة على معرفة كل شيء بدقة 100%ـ

على سبيل المثال:
لو تم قذف فيض (ملايين) من الإلكترونات على سطح مايل فالنظريات العلمية ممكن تتنبأ ان مثلا 60% هينعكسوا و 30% هينكسروا و10% هيمتصهم الجسم.

لكن لم تم قذف إلكترون واحد, لا توجد طريقة يمكن بيها التنبوء بسلوكه .. فسلوك الإلكترون الوحيد بيخضع لقانون واحد اسمه "اللا يقينية" .. بالتالي كبرياء الإنسان تحطمت على صخرة اللا يقينية العلمية.

أرجع تاني للبونبوناية وأسال: هل أنا ليا حرية الاختيار أحطها في ايدي اليمين أو الشمال؟
في ضوء مبدأ "اللا يقين" وحيث أن العلم والفلسفة توأم ملتصق هقول:ـ
يمكن التنبؤ بسلوك الجماعة لكن لا يمكن التنبؤ بسلوك الفرد
يمكن التنبؤ بحصلية مجموعة من الأحداث لكن لا يمكن التنبؤ بنتيجة حادثة واحدة.

هناك قوانين تحكم المجاميع لكن لا توجد قوانين تحكم المفردات.
وبالتالي -نسبيا-  أنا لي حرية كاملة وتامة أحط البونبوناية في ايدي اليمين أو الشمال لكني مازلت مسير في حياتي كلها كمجموع ..
ايه رأيكم في الكلام ده؟ ينفع ولا ما ينفعش؟

السبت، 22 سبتمبر 2012

المرأة الزانية


فجأة, وبدون أي إنذار, كـُـسر باب الغرفة وبعد لحظات كانت الغرفة ممتلئة ببعض الرجال والصبية الذين جاءوا لمشاهدة الحدث. وفي غفلة ستر الرجل عورته وقفز من النافذة مسرعا لأنه كان شابا قويا وهرب ولم يتبعه أحد.

اجتمع الرجال حول المرأة دون أن ينبث أحدهم بكلمة وألبسوها وأقتادوها خارجا حيث كان ينتظرهم بعض الشيوخ الذين ارتسمت على وجوههم علامات الاحتقار والتقزز وألقوا بها أمامهم.

تكلم كبير الشيوخ ذو اللحية الكثيفة البيضاء والملابس الزاهية المزركشة, تكلم بصوت عالي جهوري أسكت جميع الهمهمات وقال:
-          كم لدينا من الشهود؟
ثم سأل ثانية بصوت أعلى:
-          أي عقاب تستوجب تلك الزانية؟
فعلت الأصوات من حوله وسُمع وسط الضجيج:
-          ترجم, ترجم, ترجم بالحجارة حتى الموت.
وبالفعل تناول بعض الصبية حجارة من على الأرض وبدأوا يقذفونها لكن كبير الشيوخ زجرهم بقوة أعادت الهدوء مرة أخرى للمكان. وبوجه ترى في تجاعيده أقصى درجات الصرامة والجد وبعينين يملئهما الشرر استدار كبير الشيوخ, فتبعه بقية الشيوخ ثم الرجال وأخيرا الصبية. وقد وضعوا المرأة على ملاءة حتى لا يتنجس أحدهم بلمسها وسحبوها معهم في وسط الموكب وساروا خلف كوكبة الشيوخ.

الموتُ للزانية .. إلى الجحيم أيتها العاهرة .. انزعوا الشر من وسطكم وأرسلوا تلك الفاجرة لجهنم مع الأبالسة.

تلك هي العبارات التي كانت تُسمع إذا ما مر الموكب بجوار أحد البيوت, بينما الأطفال يهيلون على المرأة التراب ويبصقون عليها ويسبونها بأقذع الألفاظ. كبر الموكب وعظم جدا حتى صار جمهور كثير وأخيرا وصل لأحد البيوت عند الطرف الآخر من المدينة. 

توقف كبير الشيوخ ورفع يده اليمنى دون أن ينظر للخلف في إشارة للجمهور ليصمت. انخفضت الأصوات شيئا فشيئا حتى ساد السكون.

تقدم الشيوخ ودخلوا البيت الذي كان مفتوح الباب, ثم تبعهم الرجال حاملين المرأة الزانية على الملاءة وتركوها في وسط البيت.

كان جالسا على الأرض في أحد الأركان رجل في أوائل الثلاثين من عمره, يرتدي جلباب أبيض بسيط يتحدث مع قليل من الرجال والنساء الذين جلسوا حوله. أفزعهم صوت الجمهور بالخارج ثم دخول كبير شيوخ المدينة وبعض الرجال حاملين تلك المرأة المتسخة ذات الثياب المهلهلة والمنظر القبيح والرائحة العفنة.

هز كبير الشيوخ رأسه وقال بكثير من الاستعلاء مخاطبا الرجل ذو الجلباب الأبيض بينما كانت المرأة الزانية ملقاة بينهم:
-          يا مُعَلـِّم (قالها بسخرية لأن هكذا كان يدعوه أتباعه) تلك المرأة أُمسكت في ذات الفعل.
ثم رفع يديه إلى السماء وقال بصوت زلزل جدران البيت وسُمعت أصداءه في آذان كل الجمهور الواقف في الخارج:
-          شرع الله يأمر أن تلك المرأة ترجم للموت.
ثم خفض يديه وصوته وأضاف بهدوء وبكلمات متقطعة:
-          فماذا .. تقول .. أنت؟


 أطرق الرجل الجالس عند الركن وأخد يكتب بأصبعه على الأرض لكن كلمات كبير الشيوخ ألقت الرعب في قلوب الجميع خاصة تلك المرأة الشابة الجالسة عن يمين المُعلم ..

كانت على قدر واسع من الإطلاع وعلى دراية بالكتب المقدسة .. كانت تعلم جيدا أن تلك المرأة حقا تستوجب الموت رجما بالحجارة حسب النصوص الإلهية .. لكن معرفتها وإيمانها بشرائع الله المقدسة تلك اصطدمت في داخلها بشريعة أخرى, شريعة مغروسة في أعماقها عميقة عميقة جدا, شريعة غير مكتوبة لكن ثقتها فيها غير متناهية .. شريعة فطرية إنسانية ترفض رفضا قاطعا أن تُقتل تلك المرأة.

أي عذاب هذا وأي نار تلك؟ صراع نفسي رهيب .. هل شريعة الله حقا توجب رجمها؟ّ! بلا رحمة ولا شفقة؟؟ كيف يعطنا الله شريعة مكتوبة على ورق تخالف تلك الشريعة المغروسة في القلب؟ هل أنا أحنَّ على تلك الخاطئة من الله؟

كانت تلك الأفكار تتصارع في داخلها واشتدت دقات قلبها حتى هُيء لها أن الجميع يسمعها وابتدأت ترتعش كل أطرافها ثم أتتها موجة أخرى من الأفكار.

لعل تلك النصوص المقدسة ليست مقدسة, وما هي إلا خدعة ألفّها الأجداد ثم سار عليه الأباء وليس هناك شريعة إلا شريعة القلب الداخلية .. أو من يدري؟ فلعل ذلك الرجل الجالس بجواري ليس إلا دجال يتلاعب بمشاعر البسطاء يريد أن يعصينا على شرائع الله المقدسة .. ولكن .. كيف وهو يدعو للحب والتسامح يكون كذاب؟! أوه يا إلهي.

كان العرق يتصبب من جبينها وارتجفت شفتاها من فرط الإضطراب لو يعد لها أن تتحكم في نفسها على الإطلاق ثم أطاحت برأسها أفكار غريبة.

لعل الشريعتان باطلتان, وتلك المرأة الزانية لم تخطيء بل فعلت الصواب وعين الصواب! .. أو لعل الشريعتان حق! شريعة الله مقدسة وشريعة القلب الفطرية .. فلماذا إذا شيوخ المدينة بتلك القسوة والغلظة يريدون قتل المرأة المسكينة .. لعل لها عذر! أو لعل راجميها أخطيء منها .. لكن مَن يقف لهم ومَن يواجههم بأخطائهم ليتضعوا .. من يقدر أن يقف أمام كبير الشيوخ بكل رهبوته ويحاججه رغم جبروته؟!

قطع أفكارها صوت كبير الشيوخ وقد استولى عليه الغضب والسخط وهو يصرخ:
-          ماذا تقول أنت؟ ماذا تقول أنت؟

السبت، 15 سبتمبر 2012

أزمة حضارية .. (1)


اعترف بخطأي إذ ظننت أن إزاحة مبارك عن سُدة الحكم تكفي لبدء عهدا جديدا لبناء دولة تحترم الإنسان لا استبداد فيها ولا استعباد. غير أني وقفت مشدوها أرى أحلامي تتبدد وسط عواصف رياح عاتية - تبدو وكأنها القدر- لتعود مصر مرة أخرى لتستقر في ذاك المستنقع  المظلم البارد الذي طالما استراحت فيه منذ قرون من الزمان.

نعم نظام مبارك سقط, لكنه لم يسقط لخروج الملايين ضده, إنما سقط لأن استُهلك واستُنفذ واهترأ, أو بكلمات أدق: انتهت صلاحتيه. ومحاولة البعض لإعادة استحياءه أشبه بمَن وضع قطعة لحم عفنه في الثلاجة على أمل أن يجدها في الغد طازجة.

سقط نظام مبارك, وبعد فترة مليئة بالشد والجذب أخذتنا في مسار محتوم –كأنه القدر- قام نظام الاخوان المسلمين, والذي يبدو أن تاريخ صلاحيته اقصر كثيرا عن سابقه لكونهم غير قادرين شكلا ولا موضوعا على صنع تغيير حقيقي, أما شكلا لأن العقلية البرجماتية لقادة الاخوان والعقلية التابعة لجمهور الإخوان غير مؤهلة عضويا لصنع نهضة أو حتى البدء في إصلاح. وأما موضوعا لأن أداء الجماعة يأتي دائما ضعيف سطحي, غير راغب في صنع تغيير بقدر رغبته في تثبيت أقادمه, يسير في نفس الطريق الذي ساره مبارك لكن بخطى أسرع, وإن أصبح المؤيدون معارضين والمعارضون مؤيدين.

ورغم هذا, فإنى على ثقة تبلغ حد اليقين, أن محاولات اسقاط مرسي ومن ثَم جماعته لن تــُـحسِّن من الوضع شيئا, بل وإن نجحت ستأتي بديكتاتور آخر بديكتاتورية جديدة تعهد لأساليب مختلفة للاستبداد في البلاد واستعباد العباد وإن اختلفت الأشكال وتغيرت الاسماء وتبدلت الأدوار. وكأن الأنظمة الاستبدادية ليست في ذاتها سبب البلاء بل هي مجرد أداة في يد قوة عليا -كأنها القدر- تعبث بنا, حتى إذا ما أدّت أداة دورها وقُضيَ زمانها ألقت بها جانبا ثم حملت أداة أخرى لتعبث بنا مرة أخرى وهكذا إلا أن تقوم الساعة.

نحن ندور إذا في دائرة مفرغة, شعب مستسلم عاجز عن صنع تغيير, عن علم أو بغير علم يُفرعِن حكامه, وحاكم مستبد يُخضِع الشعب ويقهره ويتركه فريسة للجهل وهكذا دواليك .. معادلة لها طرفان: استبداد حاكم وجهل شعب, وكلاهما سببا ونتيجة للآخر.

ولبحث اسباب تلك المعضلة وكيفية الخروج منها لابد أولا من معرفة كُنّة تلك "اللعنة القدرية" -إن جاز التعبير- الحالّة بنا.


 * * *

حضارة واحدة إنسانية

واضح لي جليا أن أزمتنا في الأصل ليست سياسية ولا إقتصادية ولا ثقافية ولا دينية ولا أخلاقية .. بل كل تلك الأزمات وهي بالفعل موجودة, ليست إلا اثاراً جانبية لأزمة كبرى تعاني منها مصر, ليس مصر وحدها بل كل دول العالم الثالث في منطقتنا (العرب) وهي "أزمة حضــــــارية".

شعوب المنطقة تخلّفت عن ركب الحضارة الإنسانية منذ قرون ولم يبق لها إلا الحنين إلى الماضي والتغنّي بأمجاد الأجداد والتشدّق بما لا يعرفون. وهنا أتعمد استخدام مصطلح "الحضارة الإنسانية" لأنه ليس ثمة حضارات شرقية وغربية أو مصرية وإغريقية وعربية و أوربية .. إلخ, بل هي حضارة إنسانية واحدة متعددة الأوجة لنوع واحد من المخلوقات اسمه "الإنسان", حضارة إنسانية واحدة يحمل رايتها في كل زمان الأجدر على ذلك.



* * *
الحضارة ليست ثقافة

وقبل الخوض في البحث عن جذور أزمتنا يلزم أولا معرفة ما هي تلك الحضارة الإنسانية التي تخلفت عنها شعوبنا.
وهنا نميّز بين مصطلحين متشابكين عند البعض وهما الثقافة والحضارة.

الثقافة: هي مقوّم أساسي لوجود شعب من الشعوب, وهو ما يميّز جماعة عن باقي الجماعات بما تمتلك من عقائد ولغة وقيم ومباديء وسلوك وقوانين, وقد تتغير ثقافة شعب بتغير الزمن. والثقافة مكوّن ضروري غير كافي لوجود حضارة.

الحضارة: هي مفهوم أوسع من الثقافة, الحضارة هي نتاج معارف وثقافات متراكمة. وبمرور الزمن لا تتغير الحضارة بل تُصقل لأنها تراكمية. والحضارة بمثابة وعاء غير ضروري لاحتواء الثقافة.

بكلمات أخرى, قد توجد ثقافات بدون حضارات لكن لا توجد حضارات بدون ثقافات. وفي حديثنا هنا كما ذكرت, اتكلم عن المفهوم الأعم والأوسع للحضارة وهي الحضارة الإنسانية التي هي نتاج تراكمات معارف وثقافات بني الإنسان منذ أو وُجد  على سطح هذا الكوكب.

وحيث أن الحضارة هي خبرات ومعارف تراكمية, فيستلزم البحث عما يتعلق بها العودة للماضي وإعادة فحص وتقييم القديم.


* * *
جذور الأزمة
----------------------------

الدولة العثمانية

فلنولي وجهنا الآن شطر الماضي ولنعود بالتاريخ للوراء قبل أن تتم الأرض حوالي آخر 800 دورة لها حول الشمس, تحديدا عام 1299 من الميلاد/698 من الهجرة وهو تاريخ قيام الدولة العثمانية على يد أول سلاطينها عثمان بن أرطغل. ونراقب أحوال العرب قبلها وبعدها ونفحصهما من وجهة نظر "حضارية".

    • ما قبل الدولة العثمانية:

لم يهتم الأمويون بالمجالات المتنوعة من العلوم ولذلك فتأسيس العلوم عند العرب يعود فعليا للعصر العباسي. ولأن الحضارة الإنسانية تراكمية, بدأ العباسيون رحلتهم المعرفية عن طريق ترجمة أعمال فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون وأرشميدس, وشجعهم في ذلك أوائل الخلفاء العباسيين كأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد. ثم أخذ العرب في البناء عليها وتطويرها والإضافة إليها. وفي تلك الفترة كانا الجهل والأمية متفشيان في أوربا كما يقول المؤرخ الفرنسي موريس لموبارد في كتابه "العصر الذهبي للإسلام" .

وإثر هذه الوثبة الحضارية, انتعشت عقول العرب وساهموا وبقوة في إثراء الحضارة الإنسانية ودفعها للأمام, وجاد العرب على العالم بكثير من العلماء في شتى المجالات كالفلك والطب والرياضيات والهندسة والجغرافيا والفلسفة والموسيقى مثل: ابن باجة والبيروني والخوارزمي والإدريسي والمجريطي وأبو بكر الرازي وابن الهيثم وابن سينا وابن البيطار والكندي والفرابي وابن رشد.. إلى آخره.

وفي هذا يقول المؤرخ الروسي الاصل ألكسندر كويريه:
      إن عرب بغداد وقرطبة (الأندلس) كانوا معلمي الغرب, ولولا تراجم ومؤلفات الفارابي وابن سينا وابن رشد وشروحهم, لما وصل الغربيون يوما لفهم كتابات أرسطو ومؤلفات بطليموس.
غير أن في أواخر عهد الدولة العباسية سيطر على القصر تيارات دينية متشددة, ففرضت قيودا على عقول العرب وركزت على التعاطي السلبي مع أي عِلم أو كتاب غير القرآن والسنة. فتراجعت العلوم تراجعا ملحوظا. فدُعيت الفلسفة زندقة والمتفلسف زنديق وأُضطُهد العلماء وقيل أيامهم "لا تُفرِط في دراسة الكواكب، إلا لمساعدتك على تحديد مواقيت الصلاة.". وجدير بالذكر هنا: أن ابن الرشد الذي كانت أعماله من الدعائم الأولى التي قامت عليها النهضة الأوربية ولقبوه بـ"الشارح الأكبر"  حرق العرب كتبه واتهموه بالكفر والإلحاد ونـُـفي .. فاستنارت أوربا بأعماله وسقط العرب في هوة الظلام والجهل السحيق.

    • عصر الدولة العثمانية:

أجمع المؤرخون أنه عصر الكبوة الحضارية في تاريخ العرب. حيث أهمل العثمانيون التعليم والعلوم اللهم إلا قليل من الاستثناءات. واهتموا ببناء الجيش إما لصد هجمات الصليبيين أو لتوسيع رقعتهم الجغرافية وخاضوا في ذلك حروب كثيرة.

ويُرجع المولى الرومي تدهور العلوم والمعارف الدينية منها والطبيعية عند العثمانيين إلى تقريب الولاة للمنافقين إليهم ورفعهم إلى مراتب العلماء مقابل المدح والثناء والتبجيل والتحصين, فيقول الكواكبي على لسانه: "ضلَّ المتعممون وصاروا أضر على الدين من الشياطين" ويضيف في وصف حال العلماء عند العثمانيين "استأثر الجهلاء الفاسقون بمزايا العلماء العالمين واغتصبوا أرزاقهم من بيت المال ووقف الأسلاف فبالضرورة قلت الرغبات في تحصيل العلوم وثبطت الهمم .. وهكذا فسد العلم وقل أهله فاختلت التربية الدينية في الأمة فوقعت في الفتور وعم فيها الشرور".

كان عصر الفكر الأحادي وعلا فيه الصوت والسوط الديني المتشدد ولم تكن هنالك اي حضارة او علوم أو فنون متفتحة بأي معنى من معاني الكلمة, والحياة الثقافية آنذاك لم تكن إلا إمتداد للبذور التي زرعها العباسيون ومع الزمن أخذت في البهتان والخفوت ثم ما لبثت أن يبست وماتت.

وفي هذا يقول الجبرتي عن وصف إلى أين وصلت العلوم في القرن الثامن عشر: "إن أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث".

وعلى مدى خمسة قرون من الزمان, تراكم جهلٌ فوق جهلٍ وسقطت من يد العرب شعلة الحضارة وابتعدوا شيئا فشيئا عن الصفوف الأولى من موكب التطور الإنساني. ونضب الرحم العربي وأصابه العقم حتى عجز على أن يجود بأي عقل يساهم في دفع عجلة الحضارة .. إلى أن كانت الصدمـــــــــــة.


* * *
الصدمة الحضارية


في الأول من يوليو عام 1798 م استقرت قرابة 400 سفينة حربية في ميناء ابو قير وبعد معركة لم تدم لأكثر من ساعات نجحت حملة نابليون في السيطرة على الإسكندرية .. وبعث نابليون برسائل للمصريين يدعوهم للتعاون معه يؤكد لهم انه اعتنق الإسلام مرددا الشهادتين. وبعد أقل من ثلاثة أسابيع كان نابليون قد دخل القاهرة.

ما يهمنا الآن هو البعد الحضاري لذلك الحدث. كانت الحملة الفرنسية بمثابة "صدمة حضارية" للمصريين. كانت أول احتكاك مباشر للمصريين بأوربا بعد عصر النهضة. ودهشوا لتلك الأسلحة الثقيلة والعتاد والتنظيم الدقيق المتناهي الذي يتحرك به الفرنسيون. وبهتوا عند إطلاعهم على النظام الإداري الحديث للفرنسيين مثل سجلات المواليد والوفاة والقوانين والمحاكمات الحديثة وقيم الحرية. تلك الصدمة الحضارية بجانب ما لها من أضرار لكنها أيقظت المصريين من سباتهم العميق الذي دام لخمسة قرون وبعد أعوام قليلة انتفضوا وخلعوا الوالي العثماني خورشيد باشا وعينوا محمد علي باشا مكانه.

لكن قبل أن نبحث في الأثر والتطور الحضاري الذي لحق بالمصريين والعرب في عصر محمد علي, هناك سؤالا ملحا يطرح نفسه: إن كان في خمسة قرون من الزمان تدهور الحال بالعرب هكذا تراجيديا وسقطوا من قمة التحضر الإنساني إلى السفوح. فماذا فعل الغرب ليتسلق هذا الجبل العالي ويجلس متربعا على قمة الحضارة الإنسانية؟


* * * 

أوربا من الظلام إلى النور

بجانب الأحداث الجسام التي مرت بها أوربا في هذه القرون الخمسة, هناك ثلاثة علامات حضارية فارقة في تاريخ أوربا أخذتها من غياهب الظلام والتخلف والأسطورة لعصر النور والنهضة والعلم وساهمت بشكل راديكالي في تشكيل الوعي الغربي الحديث وإثراء الحضارة الإنسانية وهي:

   الإصلاح الديني -  الثورة الكوبرنيكية -  التنوير
(1) العلامة الأولى:   الإصلاح الديني
في العصور الوسطى سيطر رجال الدين المسيحي على أوربا, وفرضوا وصايتهم على الأرواح والأجساد, واحتكروا لأنفسهم حق فهم وتفسير الكتب المقدسة, وأكثروا من التابوات حتى عصموا بابا الكنيسة من الخطأ. وعم الجهل وانتشر الفساد الابس عباءة الدين الذي تجلى في صكوك الغفران التي تهب غفرانا عن الخطايا مقابل مبلغ يتم دفعه من المال.

واستمر الحال هكذا إلى أن تحلى قس ألماني من ولاية ساكسونيا اسمه مارتن لوثر بالشجاعة الكافية للوقوف ضد هذا الإفساد الديني إن جاز التعبير. وكانت فحوى رسالته هي حرية إعمال العقل في فحص النص الديني. وعلى إثر تلك الدعوة خاضت أوربا صراع طويل وحروب مروعة بدأت دينية ثم تحولت لسياسية, استمرت لأكثر من 120 عام مات فيها الملايين .. بعدها فقط تحرر العقل الغربي من هيمنة رجل الدين.

(2)    العلامة الثانية: ثورة نيكولاوس كوبرنيكوس

بعض الأفكار تعتبر ثورية, أما فكرة كوبرنيكوس هي ثورة كاملة في حد ذاتها. ناقض كوبرنيكوس نموذج عالم الفلك المصري كلاوديوس بطليموس للكون الذي لم يتجرأ احد على نقده لألف وخمسمائة عام! المنادي بأن الأرض مركز الكون, وأثبت كوبرنيكوس ان الأرض تدور حول الشمس وأن الشمس هي المركز وليس الأرض.

وقد آمن بنظريته العالم الإيطالي جاليليو, وبسبب مجاهرته بهذا الإيمان حُكم عليه بالسجن ومُنع من مناقشة أفكاره بتهمة الهرطقة لأن كاردينالات الكنيسة ظنوا وقتها أن الأرض ثابتة والشمس هي المتحركة بحسب الكتاب المقدس. .. نظرية كوبرنيكوس حررت العقل الغربي من وهم تمركز الكون حولهم ومن مطلقتهم للنسبيات.

(3)    العلامة الثالثة: التنوير
التنوير ليس حدثا محددا بتاريخ لكنه عصر تغيرت فيه الثقافة الأوربية, هو تتويج لحركة طويلة من الصراع بين الفكر المستنير من جهة والدولة والكنيسة بسلطاتهما المطلقة من جهة أخرى أو قل هو صراع بين العقل والوهم انتهى بانتصار الأول. التنوير هو نضوج العقل الأوربي.

عصر التنوير شارك فيه كثير من الفلاسفة والعلماء نقلوا أوربا من الظلام إلى النور ومهدوا بأفكارهم للثورة الفرنسية والأمريكية والبلشيفية من أشهر اعلامه فولتير وديكارت وروسو وبيكون ولوك وهيوم  ونيوتن وختمه إيمانويل كانط وجَسّده وصاغه في عبارات محدده ووصفه بأنه "خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد" وفي إجابته عن السؤال ما هو شعار التنوير قال " كن جريئا في استخدام عقلك".

عصر التنوير حرر العقل الغربي من كل سلطان إلا سلطان العقل وفتح أمامه باب الإبداع على مصراعيه ليكتشف أسرار الكون ويغزو الفضاء.

نترك أوربا الآن ونعود مرة أخرى للشعوب العربية ولنبحث, أين كانوا على خريطة الحضارة الإنسانية من بعد محمد علي؟


* * *
عصر محمد علي - إرهاصات عصر التنوير العربي

هناك علامة آخرى فاصلة في تاريخ الحضارة العربية وهي تولي محمد علي حكم مصر والذي يعتبر مؤسس الدولة الحديثة. اهتم محمد علي بتطوير المنظومة التعليمية, وحيث أن الحضارة تراكمية, أرسل الطلبة المصريين لاوربا ليلموا بآخر المعارف الإنسانية ليكوّنوا نواة نهضة معرفية وعلمية.


ولم تذهب جهود محمد علي هباء, فسرعان ما أتت ثمارها وعاد المخاض لرحم الأمة العربية من جديد, فأنجبت أعلام قادوا مسيرة قصيرة للتنوير العربي من أمثال: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني والنديم ولطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وفرج فودة ونجيب محفوظ وهدى شعراوي والعقاد وطلعت حرب وعلي عبد الرازق وفرح انطون والقائمة تطول. وأقول هنا مسيرة قصيرة لأن حركة التنوير العربية سرعان ما تم محاصرتها وإجهاضها على يد تيارات دينية متشددة في الربع الثاني من القرن العشرين ولم تقدر على الصمود لأن أساساها كان هشا ..

فها هو طه حسين يُتهم في دينه ويفصل من الجامعة لكتابه "في الشعر الجاهلي" ونجيب محفوظ يتعرض للاغتيال ويُتهم بالإلحاد وتُمنع روايته "اولاد حارتنا" من النشر. وها فرج فودة يتم اغتياله على يد جهال لا يعلموا لماذا اغتالوه. وفرح أنطون تصادر مجلته "الجامعة" التنويرية. وعلي عبد الرازق يُطرد من زمرة علماء الأزهر ويمنع من التعليم لكتابه "الإسلام وأصول الحكم".

وهكذا تم اغتيال العقل العربي للمرة الثانية. ولم يتوقف الأمر هنا, بل قد زادت الطينة بلة بعد ثورة النفط.


* * *
ثورة النفط

بعد هزيمة 1967 التي قتلت في العرب عموما والمصريين خصوصا الروح! وأثقلتهم بتبعات اقتصادية وعسكرية مهولة مما دفع السادات لتبني سياسية الانفتاح الاقتصادي ظهر النفط في بلاد الخليج, ولا يجب أن تُهمل تلك العلامة عند دراسة أزمة العرب الحضارية.

ظهور النفط في الخليج أدى لتدفق رؤوس الأموال الغربية على شبه الجزيرة, مما دفع المصريين وغيرهم للهجرة لتلك البلاد  للهروب من واقعهم القاسي وتحقيق الثراء السريع. فنمت عند العرب ثقافة رأس المال الطفيلي الضامن لتحقيق ثراء فاحش وسريع دون انتاج. فتحولت المجتمعات العربية لمجتمعات مستهلكة من الطراز الأول. ناهيك عن التبعية الجبرية للغرب, الذي فرض سطوته على العرب وأخذ يغذي الصراعات الطائفية ويدلل أنظمة الحكم الدينية المتشددة وجعل من العرب تابعين عميان للغرب سياسيا واقتصاديا بما يضمن لهم الخضوع والولاء التام.

إذا أردت تشبيه حال العرب في بعد ثورة النفط شبهته بالجسد الضعيف الهزيل المصاب بداء نقص المناعة وإذا لم ترد تجميل الحقيقة قل الإيدز .. فما أن يمر بقرب الجسد العربي فيروس فكري أو اجتماعي إلا وأصابه وأمعن في إصابته .. في تلك الأونة إصيب العالم العربي بداء عضال اسمه التعصب الديني والطائفي نخر في عظام تلك الأمة حتى النخاع مدعوما بأموال النفط ورؤوس مال متوحشة. ومن الجهة الغربية أصيب بداء "الإستيرادومانيا" فأصبحت هناك حالة يرثى لها لمجتمع متجذرة فيه الكراهية للغرب وفي نفس الوقت يعيش تابع له, مقتاتا من طعامه, مقلدا لتقاليده, ممتثلا لأوامره وثقافته. ناهيك عن الإنحلال الأخلاقي واستفحال الفساد والميل للعنف وغيرها من مظاهر التدهور الحضاري.


* * *
 الربيع العربي؟

ثم لاح في أفق ما يسمى "الربيع العربي" حين نجح شباب تونسيون ومصريون في كسر حاجز الخوف ونظموا صفوفهم باستخدام ادوات تكنولوجية حديثة فانضم إليهم جموع الشعب الذي ضاق صدره بالفقر والجهل والقهر والقمع وتدني مستوى المعيشة وأطاحوا برؤوس أنظمتهم الاستبدادية.

ولكن يبدو أن الشتاء لم ينقشع بعد .. وها العرب يستبقون التاريخ مرة ثانية, ويبنوا ثوراتهم على أساس ضعيف هش فسرعان ما حادت ثوراتهم عن الطريق الذي تخيله شبابهم إذ لم تُمهَّد عقول العرب أولا لقبول مفهوم الثورة حيث ضنّت الأراضي العربية بالعلماء والفلاسفة القادرون على رسم رؤى مستقبلية لشعوبهم.

وحين سقط الحاضر وفي ظل غياب المستقبل, أصبح الباب مفتوحا أمام الماضي ليغزو. فسيطرت على البلدان العربية تيارات رجعية ماضوية بلا رؤية مستقبلية, لا يرون المستقبل إلا في مرآة الماضي. واستبدل العرب ديكتاتور بديكتاتور وقمع بقمع وبهتت الروح المعنوية وخملت في الحضيض. وفشل العرب للمرة الثالثة في اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.

لهذا أقول ان ثورات الربيع العربي بذرة جيدة, بل جيدة جدا لكنها سقطت على أرض لم تُحرث ولم تُهيء, فسرعان ما أتت غربان الحقل المتطفلة فسرقت البذور لقوت يومها, وتركت الأرض خرباء جرداء لا زرع فيها ولا ماء, فلا صلـُحَت الأرض ولا نمت البذور لا سُدَّ جوع الغربان.

إن فشل الثورات العربية كان حتميا .. ولا أقصد المعنى السلبي للفشل اي عدم القدرة على الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية القائمة بل المعنى الإيجابي وهو الفشل في بناء نظام جديد يعظم من قيمة الإنسان ويدخل العرب مرة أخرى لدائرة الحضارة الإنسانية بعد أن عاشوا ثمانية قرون عالة على البشرية.

وتلك ليست دعوة للتشاؤم .. بل للأخذ بالأسباب والبحث الجاد والشجاع عن جذور التخلف في الثقافات العربية ..


* * *
ضرورة الثورة الفكرية

الحضارة الإنسانية واحدة وإن انتقلت شعلتها جغرافيا من مكان لآخر. وليس المطلوب من العرب إعادة اختراع العجلة بل استخدامها .. مطلوب لوثر عربيا يحرر العقل العربي عمليا من الخضوع الأعمى لسلطان رجل الدين .. مطلوب كوبرنيكوس عربيا يحرر العقل العربي من وهم تمركز الكون حولهم .. مطلوب كانط عربيا يعيد للعقل العربي مقامه وينزع له سلطانه الذي سلبه منه الملوك وعلمائهم المنافقون..

مطلوب ثورة فكرية جذرية تزيل عن العقل العربي صدأ قرون الركود. وإذا ما هُيئت العقول العربية, تكون الثورة السياسية ليست خيارا بل نتيجة طبيعية بديهية لنضوج حضاري موجود. ولن تكون الثورات وقتها مفاجئة كما حدث في الربيع العربي  بل متوقعة مكانا وزمانا. ولن تكون هناك حاجة لحملات تعريف بالثورة وأهدافها لأن العقل الناضج يقود نفسه بنفسه.

إن المتأمل المحايد يرى أن هنالك مسافة زمنية تفصل بين العرب والغرب طولها على الأقل 600 عام. لكني أعول على الانترنت ووسائل التكنولوجية الحديثة أن تكون قادرة على تقليص هذا الفاصل بشرط .. توافر الإرادة. المهم هو بدء السير في الطريق الصحيح وطريق الألف ميل أوله خطوة!

* * *

هذا كان بحثا موجزا عن أزمة العرب الحضارية من الناحية التاريخية. لكن كيف تأثر العقل العربي فكريا بتلك الأزمة؟ في هذا يكون لنا حديثا آخر بإذن الله.