الأحد، 31 يوليو 2011

أستاذ محمود جمعة


 لم أرد إهانة أي شخص فمصر بها عشرات الآلاف يحملون نفس الاسم لكني أدين أسلوب بعينه


يدق الجرس القديم في فناء المدرسة بصوته الباعث للأمل ليعلن انتهاء حصة وبدء آخرى, نتنفس الصعداء ونتبادل احاديثنا القصيرة الشيقة ويتشاكس بعض التلاميذ كعادة الأطفال في هذا السن, لكن سرعان ماينتشر الخبر في الفصل بأن الحصة القادمة هي حصة اللغة العربية فتتحول البسمات على وجوهنا لتجهم و بسرعة أفتش عن كراسة العربي في الشنطة بقلق لأتأكد من وجودها ولأطمئن أني اديت واجب الأمس كما أراد الأستاذ, ثم أتأكد مرة أخرى, وأخرى, واشعر بدقات قلبي تتسارع خوفا من أن اكون قد هفوت أو نسيت جزءا من الواجب.

وفي لحظة يُصدم فيها الباب بقوة ويُفتح بعنف ويتقدم استاذ محمود جمعة كقائد يغزو مدينة, فتتحول همهماتنا لصمت مطبق وينقبض قلبي في صدري وننتصب جميعنا واقفين, لا احتراما بل خوفا. يتقدم الاستاذ دون أن ينبث بكلمة واحدة ويجلس على "دكة الاستاذ", يرتب أورقه متجاهلا 45 تلميذا وقفوا انتباها لدخوله. وبعد دقيقة أو اثنتين وبدون أن ينظر إلينا يقول بصوت منخفض يسمعه فقط تلاميذ الصف الأول وبالكاد الثاني:

-          "السلام عليكم".
-          "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".
ثم يسمح لنا بالجلوس إلا من لم يؤدي واجب الأمس.

يمر أستاذ محمود جمعة بيننا ببطء ثم يتوقف عند الواقف الأول:

-          "معملتش ليه الواجب يا حيوان؟"
-          "والله عملته يا استاذ بس نسيت الكشكول"
فيتجاوزه كأنه لم يسمع شيئا ويشير له بالخروج ثم يتوقف عن الثاني:

-          "وانت كمان اكيد نسيت الكشكول مش كده؟"
-          "لا يا أستاذ الكشكول معايا أهو بس والنعمة يا أستاذ والنعمة أمي تعبت امبارح وودناها المستشفى وملحقتش اعمل الواجب"
-          "طب اطلع اركن برة جنب زميلك"
وهكذا يحدث مع الثالث والرابع وتتوالى المبررات وتأتي الاعتذارات بعضها مصحوبا بالدموع لكن لا قلب لمن تستعطف. والنتيجة, 6 تلاميذ يقفون عند السبورة وقد حُكم على كل منهم بعشر جلدات.

يكمل جولته في الفصل ثم يشير فجأة لأحدنا, فيقف, "ما هي نواصب الفعل المضارع؟"  .. يتهته زميلنا ويتلعثم فيأتيه حكم لا رد له "اطلع اركن برة" ثم يلف 180 درجة بحركة خفيفة ويشير فجأة لتلميذ آخر "جاوب". يصيبه التخبط ويتسائل عن السؤال نفسه, "مش عارف السؤال يا روح أمك! طب اطلع اركن برة", فيشير لآخر فيقف يردد الإجابة بسرعة قبل أن ينساها " أن لن كي .. أن لن كي .." ويتصبب العرق بغزارة من وجه طفل في الحادية عشر من عمره فيأتيه الصوت الساخر "أن لن كي و ايه؟؟ اطلع جنب زمايلك" ثم يشير لآخر فيجيب "أن لن كي حتى لام التعليل" ثم آخر "أن لن كي حتى لام التعليل".

هكذا ينتهي الجزء الأول من حصة اللغة العربية – مرحلة الاصطياد, ثم يبدأ الجزء الثاني "حلقة التعذيب".

أربعة عشر تلميذا حكم على كل منهم بعشر جلدات كلٍ نتيجة لإثم ارتكبه. يطبق استاذ محمود جمعة نظرية "اللي تهيف باتنين" فلا يجد المعاقب مناص من أن يقدم يديه واحدة تلو الآخرى لينال عقابه على تقصيره. يجلس بقية التلاميذ متفرجين على عقاب زملاءهم, يشكر كل واحد ربه أنه لم يصبه الدور ولم يقف اليوم في صف المعاقبين.

-          "معلش يا أستاذ, سماح المرادي بكرة هجيب واجب بكرة وواجب انهاردة".
-          "والنبي يا أستاذ والنبي أمي كانت تعبانة والله العظيم ما بكدب"
لم تجد الدموع صداً ولا التوسلات أذنا صاغية وبدأ تنفيذ الأحكام.

لن أستطيع أبدا أن أنسى يد أستاذ محمود جمعة وهي مرتفعة عاليا تحمل الجلدة السوداء, ولا صوت الصفير الذي تحدثه وهي تشق الهواء, ولا طرقعة اصطدامها بكف صغير لطفل تملكه الذعر. آااااااااه يصرخ الطفل متوجعا ويقفز لأعلى في حركة غير إرادية ثم يتلوّى على الأرض كالدودة وينظر ليده التي صارت حمراء كالدم. يبكي وينوح, يسترق نظره لعيني الأستاذ علّه يجد عفوا لكن لا جدوى. ويأتيه الصوت: "ما انت لو كنت ذاكرت وعملت الواجب ماكنش زمانك قاعد تبكي دلوقتي زي النسوان".

خوف وذعر وبكاء وصراخ يملأ الفصل أما أستاذ محمود جمعة يقف كالمسخ أمام التلاميذ وقد هربت من وجهه كل شفقة و رحمة رافعا يده حاملة الجلدة السوداء استعداد للضربة الثانية.



هذا المشهد كنت أراه بصورة شبه يومية منذ 13 عاما, لصق بذاكرتي ولا يمكن انتزاعه. لست أعلم في تلك الفترة كان قد صدر قانون "منع الضرب" أم لا, هذا القانون الذي رفضه الكثيرون بحجة أنه اضاع هيبة المعلمين!. على أي حال, أستاذ محمود جمعة كان يمثل السلطة الباطشة التي تمسك بعصا القمع لتعاقب كل من يخرج عن إرادتها. وضع أمام تلاميذه طريقين لا ثالث لهما, إما الخنوع أو العقاب, لا يهمه كثيرا رضا التلاميذ أو مستواهم العلمي بقدر ما يمهه احتفاظه بالسلطة المطلقة.

كيف يخرج للمجتمع أناس صالحون مستوون نفسيا قضوا عاما كاملا مع أستاذ كهذا؟ وما الحال إذا كان في المجتمع مئة محمود جمعة أو ألف أو عشرة آلاف؟

لن تتعجب كثيرا, عزيزي, إن حاولت تفسير سلبيات المجتمع الحاضرة في ضوء درايتك بأستاذ كهذا. شخصٌ يخوّن آخر لا لسبب إلا أنه خالفه الرأي, هو شخص فطن على وجود طريقين فقط, إحداهما الحق والآخر الباطل .. لم يعرف يوما قيمة "الحرية" و "الاختيار".

إنسانٌ لا يهزه منظر أم ورضيعها ملقيان على جانب الطريق دون مأوى أو ملبس أو طعام, هو إنسان كان يوما يجلس ساندا ظهره متأملا أستاذه وهو يكيل الضربات لزملاءه في الفصل حتى ماتت في قلبه كل مشاعر إنسانية.

أبٌ قاسي على أبناءه, يضرب زوجته ولا يسمع صراخها.. كان يوما تلميذا ضربه أستاذه حتى صارت يده حمراء كالدم ثم نظر في عينيه فلم يجد رحمه.

و قس على هذا, قس كما تشاء وسوف تدرك جزءا آخر من الصورة .. أنظر حولك وتأمل, هل تذكر هذا  الذي فرح عندما عرف بموت أبرياء؟ قد زُرِع في قلبه أن يكره كل أخر.. هل سمعت عمن طربه صوت ذاك الانفجار؟ قد رنّت جلدة الأستاذ على يده يوما ولم يخلصه أحد.

لست أجد أبلغ من كلامات الإعلامي يسري فودة: أفيقوا يرحمكم الله .. نعم, أفيقوا يرحمكم الله فلن ينصلح حالنا وإن أقررنا مائة قانون بينما العقول هي هي, ضعوا مواد دستورية وأخرى فوق دستورية بل وتحت دستورية لن نتحرك ايضا قيد أنمله ما دامت العقول أصابها العطب وتكاثر عليها الصدأ.

منظومة التعليم في مصر – على أحسن تقدير – فاشلة, بداية من "أوضة الفيران" مرورا "بنسبة الحضور" وصولا لـ"نموذج الإجابة" .. فاشلة على المستويين التربوي والعلمي. فإن أردنا النهوض بأمتنا علينا تطوير مصنع العقول ولنهتم بالتعليم ثم التعليم وإلا فعد نفسك للبكاء على وطنٍ  كان اسمه مصــــــر.


السبت، 16 يوليو 2011

فُكك من أهلك



أحد الشعارات التي استخدمت للحشد لتظاهرات 8 يوليو هو "فكك من أهلك وانزل اعتصم" وعندما تتبعت الهاشتاج #fokakmenahlak  على تويتر وجدت أنه استخدم لأول مرة في الساعات الأولى ليوم 8 يوليو .. لست أعلم من ابتكره أو متى لكني أرى فيه قدرا من العبقرية يستحق أن نقف أمامه ولو قليلا.

أولا: الفعل فَكَكَ وهو عربي فصيح, فَكَكْتُ الشيء: خلَّصته وكلُّ مشتبكين فصَلتَهما فقد فككتهما, لكن استخدامه هنا مصري دارج بحت. فإن تعلّم أحدهم اللغة العربية الكلاسيكية وسمع هذا التعبير "فكك من كذا" لن يفهمه إلا إن كان مصريا أو عاش في مصر. وهذا في رأيي الوجه الأول لعبقرية الشعار فهو موجّه للمصريين فقط.

الوجه الثاني يكمن في إضافة "من أهلك" للشعار, لأنه يخصص فئة عمرية بعينها, فلا يستقيم أن تقول لطفل في الثامنة من عمره مثلا فكك من أهلك لأن ارتباطه بوالديه لا يُفك, ولا يُعقل أن تقول لرجل في الأربعين  فكك من أهلك لأنه أصبح مستقلا عن أهله إلى حد بعيد. هو إذا يخاطب شباب صغير مازال في مرحلة الشد والجذب مع الأهل لانتزاع استقلالهم وهي المرحلة العمرية التي نستطيع أن نعول عليها في تغيير حقيقي نرجوه.

الوجه الثالث للعبقرية هو الربط ما بين الاعتصام والعلاقة بالأهل "فكك من أهلك وانزل اعتصم", فمبتكر الشعار يدرك تماما أن رفض الأهل هو العائق الرئيسي الذي يواجه أي شاب قرر أن يعتصم أو حتى يتظاهر. وإني لعلى اقتناع أن ما حققه الشعب المصري في 18 يوما – وهي فترة قصيرة نسبيا – كان ممكن أن يتحقق في 18 ساعة فقط لو كان الأهالي تركوا لابنائهم و بناتهم حرية المشاركة في الاحتجاجات.



ودتت أن أذكر نفسي بالوصية الخامسة من الوصايا العشر أكرم أباك وأمك وبتعاليم الانجيل للأبناء أن يطيعوا والديهم وأذكر أيضا ما درسته في النصوص من سورة الاسراء بالوالدين احسانا وأن أقول لهما قولا كريما. السؤال الآن: هل شعار فكك من أهلك يتعارض وتلك المباديء الدينية وطبيعة ثقافتنا الشرقية؟؟ .. مش عارف! .. آيوة مش عارف. لكني على يقين أن كل سلطة من دون الله هي محل مراجعة وفحص وكلنا قد نخطيء وقد نصيب ومجتمعنا أعطى الأهل سلطات واسعة - وفي بعض الاحيان مطلقة -  ومن المتفق عليه أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ولذلك لا أرى حرجا في مراجعة الصلاحيات المعطاة للأهل على أبنائهم.

وهنا أريد أيضا أن أتقدم بالشكر لعوض الله (الذي لا أعرفه) صاحب التويتة الملهِمة عن قيمة هذا الشعار الجديد واصفا إياه بأنه بداية الثورة الاجتماعية, وهو كذلك. إلا أنه ليس البداية في حد ذاتها لكنه تجسيد لمفهوم انطلق مع الأيام الأولى للثورة ولم يكن للثورة أن تولد وتتقدم لولاه. أتحدث الآن عن المعنى الأشمل والأوسع للشعار فلا أحصره في المفهوم الضيق للـ"أهل" بل في كل سلطة سخّرت صلاحيتها لتبني حواجز في طريق أهداف وأحلام من يخضعون لها.


نقطة البداية كانت قبل 25 يناير بأيام قلائل عندما انتشرت الدعوات الالكترونية للنزول للشوارع والميادين في اليوم المحدد للاحتجاج وإعلان الرفض لوضع قائم, تلتها فتواى شيوخ أجلاء وقساوسة وأساقفة نقدرهم لا ليحذروا بل ليمنعوا صراحة الشباب من المشاركة. قد يدعي البعض أن هناك ما يسمى بالإسلام السياسي وهو يعطي الحق لرجل الدين استخدام سلطته الدينية سياسيا, الله أعلم. لكني أعلم أنه لا يوجد شيء اسمه "المسيحية السياسية" (سواء كان أم لم يكن, بعد 18 يوم سمعنا تبريرات كثيرة من الجميع لذلك الموقف المتخاذل لكننا لم نسمع اعتذارا واحد. ما أسهل التبرير وما أصعب الاعتذار).. ورغم هذا امتلأت الشوارع يوم 25 وما تلاه بشباب مصر الحر في مشهد لن تنساه مصر, وتلك كانت الشرارة الأولى لـشعار "فكك من أهلك" الذي لم نكن نعرفه بعد.

علامة أخرى على طريق فكك من أهلك ظهرت قبل أن تتمخض به ثورتنا, يوم 27 مايو حينما تجددت الدعوات للتظاهر, كانت المؤسسات الدينية الرسمية استوعبت درس 25 يناير فلم يلقننا أحد وقتها أينبغي أن نشارك أم لا (وهو أمر عظيم ومفرح) لكن جماعة الأخوان لم تكن قد استوعبته بعد فجاء موقفها – مفترضا حسن النية – متخاذلا يفتقر للحنكة السياسية وحاولوا الحشد ضد اليوم لكن شبابهم الحر شارك جموع المصريين في فعاليات اليوم الرائع. وأيضا كاسيناريو 25, علقوا على موقفهم المتخاذل بكثير من التبريرات لكن لم نسمع اعتذارا واحد .. حقا ما أصعب الاعتذار.

شعار فكك من أهلك الذي ولد مع الموجة الثانية للثورة يحمل في طياته ثورة اجتماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى, ثورة بين جيلين اتسع الفارق بينهما, اكبرهما تربى على الطاعة العمياء, استقى معارفه من الجيل الأكبر. وأصغرهما وجد أمامه العالم مفتوحا, له الحق أن يختار ما يشاء ويعرف ما يشاء ويبحث عن اسباب كل شيء. جيل يهتم بماذا وآخر يبحث عن لماذا.

ولكي لا أبدو متحاملا على جيل أبائي وسلطة الأهل عموما أذكر مثالا عن أحد الأباء الأكثر من رائعين الذين بدأوا اعتصامهم يوم 8 يوليو في ميدان التحرير ( نعم, للآسف, هم ليسوا بلطجية كما يقولون).

سأل أحدهم الأب: انت معتصم يا حاج؟
-          ايوة معتصم.
-          ليه؟
-          عشان أخد حق ابني اللي مات يوم 28 يناير برصاص القناصة.
-          طب يا حاج انت سيبته ليه ينزل يوم 28؟ ما كنتش عارف ان اليوم ده خطر؟
-          أنا للي قولتله انزل.
هنا صمت محاوره قليلا من صعوبة الموقف ثم سأله ثانية:
-          انت مش ندمان انك انت اللي قولتله ينزل؟
فجاء رد الأب سريعا و مفاجئا: لأ مش ندمان
ثم أضاف و قد امتلأت عيناه بالدموع وقلبه بالإيمان وصوته بشجاعة متناهية:
-          وان رجع يوم 25 تاني ورجع ابني صاحي تاني برضه هقوله انزل.

 الدرس الذي بات على جميع السلطات أن تستوعبه, كانت دينية أو أبوية أو سياسية أو عسكرية أو حزبية أو أيديولوجية أنه لا طاقة لكم بالوقوف أمام مطالب الشباب المشروعة, لا تحاولوا الاصطدام بها, ولا تضعوا عوائق وحواجز في طريقها و إلا دُهِست دهسا, احترموا عقول الشباب, ودعونا نعمل معا دون اقصاء أو تعالي.


وعندما يجلس التاريخ ليكتب حكاية ثورة مصر, اقترح عليه أن يختار عنوان فصلها الأول "الشعب يريد", ذلك اللحن الذي صار أغنية, يتغنى بها كل شعب عربي يبحث عن الحرية, صرخ بها الشعب ليعلن للعالم أن له صوت يجب أن يُسمع و له إرادة يحب أن تُحترم. و للفصل الثاني عنوان "فكك من أهلك" مشيرا لثورة اجتماعية  و عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقة من سلطة تحترم أبنائها وأبناء يطيعونها في الحق.


يقول المفكر محمد النويهي إبان "ثورة" 1952  أن أي ثورة سياسية لم يتبعها ثورة اجتماعية وفكرية محكوم عليها مقدما بالفشل. هذا وقد صنعنا الثورة السياسية ونصنع الثورة الاجتماعية.. متى نصنع الثورة الفكرية؟