الاثنين، 25 أبريل 2011

الازدواجية .. تغييب أم خداع للعقل؟


بعد يوم عمل طويل وفي طريق عودتي للمنزل أخذت مكاني على مقعد في عربة المترو في محطة رمسيس "حسني مبارك سابقا" ومع العلم إنني لست من هواة التسابق على المقاعد الخالية إلا أني كنت منهكا يومها جدا وشكرت ربنا لمّا وجدت مقعدا خاليا فقررت أن أجلس وسندت رأسي على المسند بجواري وقد رخيت جسمي منتظرا مرور 8 محطات حيث اعتدت أن أنزل في محطة فيصل.

بعد محيطات قليلة صعد إلى العربة - من باب الصعود! - رجلٌ و امرأتان منتقبتان وكانت العربة قد أخذت تزدحم قليلا, الرجل تقريبا في منتصف العقد السادس من عمره والمرأتان تبدوان إحداهما زوجته والأخرى ابنته أو شيئا من هذا القبيل, وبالرغم من أني من أولئك الشباب الذين كثيرا ما يسمعون عبارات من أمثال "شكرا يا حبيبي" و "ربنا يخليك يا ابني" في المواصلات العامة حين أترك مقعدي لرجلٍ أو امرأةٍ مسنة إلا أنني قررت ألا أترك مقعدي لسببين, الأول وهو الذي قلته لنفسي هو أنني متعب وأحتاج للراحة والثاني وهو الذي خبأته في قلبي هو أن المرأتين منتقبتين (نعم أعلم أنها عنصرية بغيضة), أصل كلام بيني وبينك في السر أنا ما بحبش الستات المنقبات بحسها كده كأنها بتشتمني أو بتعاملني على أني حيوان مستني يشوف اللحمة عشان ينهشها (ومن فضلك لا تترك تعليقا يتعلق بموضوع النقاب لأنه ليس موضوعي الآن), المهم, بدأت المرأتان تجولان بناظريهما على المقاعد كأنهما تبحثان عن مكانٍ خالٍ ولسان حال أعينهما المستترة يقول "يالا حد يخلي عنده دم ويقوم عشان نقعد", لكن من الواضح إن مش أنا بس اللي ماكنش عندي دم, فقد لم يقم أحد ليجلسهما.

تنتن تنتن, صفرت الصفارة مرتين, أُغلق الباب و تحرك القطار مكملا رحلته, تحرك معه عقلي وقلبي في جدلٍ قصيرٍ لكنه عميق, قلت لنفسي: ما بالك جالسا هكذا بمنتهى البرود وأمامك امرأة عجوز واقفة, هَبْ أنها أمك, هل كنت لتتركها واقفة هكذا؟؟ قم الآن كشهمٍ واترك لها مقعدك .. لكني كل يومٍ أترك مقعدي لآخر, أنا شهمٌ أما اليوم فأنا بحق متعب, انتظر قليلا لعلهم نازلون المحطة القادمة .. هل لم تقف بعد؟ قم الآن ولوِّح بيدك اليمنى للرجل العجوز ليرسل إحدى امرأتيه لتجلس مكانك, وهذا بدوره سوف يُكسب ديانتي بنطا عندما يرى الناس شابا موشوم ساعده بصليب يترك مكانه لمنتقبة .. هل جننت؟ هل حقا ستترك مكانك لامرأة خبأت وجهها حتى لا تراها؟ هل ستفعل خيرًا مع رجل يحسبك كافرًا؟ .. وهكذا امتلأ رأسي المُتعَب بأفكارٍ متواترة سريعة لكنها كثيرة حتى أخيرا حسمت أمري أني ... لن أترك مقعدي أبدا, وتنفست الصعداء مستريحا لقراراي الذي أخذته.

وما كدت أرخي جسمي ثانية طاردا عن رأسي تلك الأفكار حتى حدث ما لم يكن في الحسبان, فقد قام الشاب الملتحي عن يساري داعيا المرأة العجوز أن تأخذ مكانه, يبدو أنه كان في معركة فكرية داخلية هو أيضا لكنه ذهب لعكس ما ذهبت أنا, شَكَرَته المرأة الوقور وجلست بجواري, تبعها الرجل و المرأة الأخرى ووقفا أمامنا, شعرت بالحرج للحظة لكني لم ألتفت إليهما لأن هذا سوف يزيد حرجي وأخذت أردد بداخلي حيثيات قراري الأخير حتى لا أتوانى و ظللت أُذكّر نفسي أني متعب وأن هؤلاء القوم يحسبونني كافرا وغيرها من الأفكار التي تشدد من أزري. قطع حبل أفكاري صوت رجل عجوز يقول لي: "يا أستاذ" فالتفتُ, فأضاف "ممكن لو سمحت بعد إذنك عشان المدام حامل" وأشار إلى المرأة الأخرى الواقفة. بدون تفكير وفي لمح البصر تركت مكاني وذهبت إلى باب العربة حيث كانوا هم واقفين, تبعتني عبارات استحسان و شكر لكني لم أستمعها جيدا لأني كنت متوترا.

بعد بُرهة عنّفني فكري قائلا: ها أنت قد وقفت ولم تستطع أن تجيب الرجل ولو بكلمة واحدة يالك من جبان. فأجبت نفسي: أنا فعلا قد قررت أني لن أقوم لكني لم أكن أعلم أن المرأة حامل. قاطعني فكري ثانية: هه, أنت ساذج, أي امرأة لكي تقيم رجلا تقول أنها حامل, ثم هَبْ أنها فعلا حامل, لماذا جلست المرأة الأخرى أولا؟ كان بالأولى أن تترك صاحبتها الحامل لتجلس أولا, ههه لقد خدعوك وكذبوا عليك وأنت شربتها كمعتوه. وهكذا ظلت الأفكار تراودني وتطاردني حتى أخيرا وصل القطار محطة فيصل فهممت بالنزول.


إنها الازدواجية, ازدواجية الفكر, التي دائما ما تضع صاحبها في مأزق حينما يكون للمرء معايير مختلفة في الحكم على الأمور. والحياة مليئة بالمعضلات ونحن ملآنين بالنزعات. أذكر على سبيل المثال هؤلاء القوم ذوي خلفية "إحنا آسفين يا ريس" فكثير منهم تحت وطأة التأثير الإعلامي رضخوا أخيرا أن الرئيس السابق لم يكن الرجل الكفء الذي حسبوه بطلهم لكنهم مازالوا متعلقين به عاطفيا لذلك تجدهم يرفضون أن يحاكَم و إذا سألتهم لماذا يقولون "حرام", فهم وقعوا في الازدواجية ما بين شعورهم بالرأفة ناحية إنسان طالما أحبوه وبين وقائع فساد وإهدار المال العام تملأ الجرائد كل يوم.

وأيضا صفحات الفيسبوك من أمثال شباب 6 أبريل أو كلنا خالد سعيد وكثير من الشباب المصري فمع احترامي الشديد وتقديري لهم إلا أن أحدهم لم يحرك ساكنا لقضية المدون المصري الذي حُكِمَ عليه بالسجن كنتيجة لرأي قاله, فبالرغم من أنهم يتحدثون كل يوم عن المصري الجديد وضمان حرية الرأي و التعبير إلا أنهم أيضا سقطوا في فخ الازدواجية اللعين, ما بين مطرقة رفض المحاكم العسكرية للمدنيين والدفاع عن حرية الرأي و سندان فقدان كثير من الشعبية إذا دافعوا عنه لأنه يحمل موقفا مغايرا تجاه إسرائيل.

ازدواجية أيضا يسقط تحت رحاها عشرات الملايين من المصريين, الذين يتحدثون ليل نهار عن المواطنة وعن تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون, ثم تجدهم يرفضون أن يتولّى عليهم محافظ قبطي أو رئيس قبطي. هم يئنون تحت عجلات ازدواجية الفكر, ما بين مبادئ دينية وإنسانية ووطنية ترسخت في أذهانهم عن أن الجميع سواء وما بين فتوى أحد أو بعض الشيوخ عن حُرمة أن يتولى قبطي على مسلم, ولهذا تخرج مواقفهم مشوبة بازدواجية عجيبة.

لستُ أدعي المثالية لكن من حقي أن أبحث عنها, فأنا أيضا في حياتي اليومية أتحسس ازدواجيتي في كثير من الأمور, فأحيانا أتعرض لموقف ما مرتين, أتصرف في كل مرةٍ تصرفا عكس الآخر, في المرة الأولى أبرر موقفي بأني كنت أطيع والديّ و المرة الثانية أبرر موقفي بأنه من حقي أن أستقل و أن أفعل ما يحلو لي. ولمّا أرى حرب الإرهاب فكري قد أضرمت, أغضب بشدة وأكتب وأتحدث مع هذا وذاك عن حرية الاعتقاد وحرية الاختيار وما أن أجلس إلى نفسي حتى أجدني لم أختر يوما ما هي عقيدتي!.

هناك ملاحظة أخيرة, لم يتوقف القطار ليسألني سائقه عما أصابني من حيرة بل أنا الذي نزلتُ في محطتي. لم يعقد ركاب القطار مؤتمرا جماهيريا ليبحثوا معي ما راودني من أفكار وعن موقفي تجاه الرجل و المرأتين المنتقبتين.
فسوف تظل الحياة مليئة بالمعضلات وسوف نظل نحكم بمعايير مزدوجة. وسوف نظل نتفلسف ونتحذلق ونتفزلك و نتحلفص (لا تسألني عن معنى نتحلفص) حتى نبرر مواقفنا ونُطمئِن أنفسنا لسلامة مبادئنا بينما قطار الحياة .. يسيــــــــــــــــــر.

الاثنين، 11 أبريل 2011

الصورة النمطية



في مطالعة الجرائد يوميا متعة لا تكتمل إلا إذا قرأت تعليقات القراء أسفل الخبر, خاصة لتلك الأخبار و المقالات محل الجدل التي تختلف فيها آراء السادة القراء. هناك بعض التعليقات أتمنى و أنا أقرأها أن أكون لابسا قبعة حتى أقلعها احتراما لفكر كاتبها و تكون بعض الآارء الآخرى مستفزة إلى الدرجة التي لا يُنصح فيها لمرضى ضغط الدم بقراءتها. والحمد لله, أنا لست أعاني من ارتفاع ضغط الدم فاستطيع قراءة تلك التعليقات, لكن ما جذب انتباهي هي تلك الخطوط العريضة التي يسير على نهجها السادة المعلقون "المتسفزون" إلى الحد الذي استفزني أنا أيضا أن أبحث عن ماهيتها وما خصائصها.
وبعد جهد ليس بقليل وبعض الاستشارات أخيرا وجدتــــــــــها!! .. آراء هؤلاء المعلقون و أفكارهم وتوجهاتهم محكومة بشيء واحد يبرطها جميعا يسمى "الصورة النمطية".

و بحسب التعريف الذي وجدته لذاك المصطلح الأوكروباتي هو الآتي: " الحكم الصادر لوجود فكرة مسبقة في شيوع فكرة معنية عن فئة معينة، فيقوم المدعي بالباسها صفة العمومية أو فكرة مسبقة تلقي صفات معينة على كل أفراد طبقة أو مجموعة." حسنا حسنا .., لا تدع كل تلك المعينات تقلقك فقط عد وإقرأ التعريف مرة ثانية هو سهل بسيط.

وجدت علماء النفس و المتخصصون يعزون تكون الصورة النمطية عند الفرد كنتيجة لأحادية الرؤية. والبركة في إعلامنا العظيم, فإن كان الإعلام له الدور الأهم في تشكيل ثقافة المجتمع في العصر الحديث فأنا أتهم الإعلام الموجَّه الذي عمل جاهدا على مدار سنين على تشويه العقلية المصرية عن طريق تسليط فكرة واحدة على الرؤوس حتى تعمقت تلك الثقافة في جذورنا المعرفية, ثقافة الصورة النمطية. وللاختصار, سوف استخدم التعبير "الشخص النمطي" في إشارة إلى الشخص الذي يفكر بصورة نمطية.

الشخص النمطي هو شخص عادي!, زيه زينا, مع الفارق, هو شخص قام بتقسيم المجتمع لفريقين, الأول هي الفريق التي ينتمي إليه و الثاني هو أي كيان لا ينتمي إليه, وقد يكون التقسيم على أساس ديني أو عقائدي أو ثقافي أو جنسي أو طبقي أو فلسفي إلخ أو بعضهم أو كلهم, المهم أن يجد نفسه دائما ينتمي لفريق وأن يجد الآخرين في الفريق الآخر ولا يعنيه كيثرا معرفة ما هو هذا الآخر. وحيث قام بتصنيف المجتمع إلى مع و ضد, فهو يشعر دائما أنه في معركة, تتملكه رغبه دائمة في المنافسة, ينظر للآخر باحتقار وبرغبة في قهره وإذلاله.
الشخص النمطي – حسب التعريف السابق – دائما ما يمتلك فكرة مسبقة, رده جاهز قبل أن يسمعك, ميالا أن يحكم حكما شموليا, يُسقِط على الفرد حكم الجماعة وعلى الجماعة حكم الفرد, لا تعنيه التفاصيل كثيرا ولا يكلف نفسه عناء إعادة التفكير فهو دائما على حق, يشعر بارتياح نفسي إذا ما أصدر حكما سلبيا على الآخر لأن هذا يشعره بقيمة ذاته.

في مقال نشرته جريدة اليوم السابع في 9 أبريل 2011 بعنوان : اللجنة الوزارية الأمنية تجتمع غدا برئاسة الجمل, جاء تعليق أحد السادة القراء النمطيين كالآتي نصا: " طالما تم اسناد اللجنة ليحيي الجمل فقد فشلت مقدما و لن يرضى الشعب عن اي  اجراء او قرار يصدر عنها. انشر ياعم" هذا مثال للشخصية النمطية ذات الحكم النمطي و للآسف كثيرا ما نحكم نحن أيضا على الآخرين مستخدمين هذا الأسلوب المعدوم العقل. فمن قراءة التعليق نلاحظ الأتي:
-          لا يحتاج إنسان أن يقرأ تفاصيل الخبر حتى يأتي بتعليق كهذا فتعليقه لم يأتِ بأي تفاصيل تخص الخبر, و هو ما يجلعنا نفترض مطئنين أنه لم يقرأه. (لاحظ هنا تجنبه لتفاصيل الخبر)
-          المعلق حكم حكما مسبقا (لاحظ قوله مقدما) على يحيي الجمل دون أن يبدي سببا واحدا لسبب هذا الفشل المستقبلي المزعوم.
-          أسقط المعلق على الشعب حكم نفسه حين قال " لن يرضى الشعب ", أريد أن أسأله, من أقامك يا سيد نائبا عنا؟؟و بأي صفة تتحدث باسم الشعب؟ الإجابة بسيطة, هو حكم حكما شموليا شمل الشعب كله.

و لأن الشخص النمطي يظن أنه وحده وفريقه على صواب, يقسم الناس إلى صادق و كاذب, أبيض وأسود, كل ما يقوله الصادق صدق وكل ما يقوله الكاذب كذب. وهو على يقين أن المجموعة التي ينتمي إليها هي القياسية, ويجب على كل آخر أن يقتضي بها. لا يعظِّم فريقه فحسب بل يحقّر الآخر كلما واتته فرصة, هو إنسان مسكين يعيش, في معترك قتال افتراضي, يحارب في ساحة حرب ليس لها وجود إلا في خياله, يريد أن يقهر عدوه قبل أن يقهره هو. يصارع مسوخا اختلقها لنفسه ثم يطعنها و يصيح في نشوة متلذذا بالانتصار.

في خبر نشرته جريدة المصري اليوم في 21 مارس 2011 تحت عنوان :  انتصرنا في «غزوة الصناديق» والبلد بلدنا.. والشعب قال «نعم» للدين, كان تعليق أحد القراء كالآتي بنصه: " اللهم احفظ شيخنا الجليل والله قد قال الحق الذي لا يريده كثير من الناس الذين يريدون فصل السياسة عن الدين واعطاء الحرية الكاملة للاشخاص الذين يريدون الفسق والفجور والفساد في البلد" يظهر أن  كاتب التعليق يعيش في معركة خيالية, وضع الخوذة على رأسه و أمسك بالسيف في يده و اعتزم أن يحارب حتى الموت دفاعا عن الحق ضد الفاسقين و الفاجرين و الفاسدين. .. للآسف كاتب هذا التعليق قد أهدر طاقته في معركة لم توجد, لبس ثوب الحق وألبس غيره الباطل, لم يتردد أن يصف معارضيه بأقذع الألفاظ حتى يطمئن قلبه لسلامة موقفه.

يضيف علماء النفس أن الشخص النمطي يرى أن النشاطات المجتمعية يجب أن تقتصر عليه و فريقه, قد يقبل مشاركة الآخرين لكن على استحياء و تحت قيود و قوانين حازمة لا تسري عليه هو!. محاولة اقناعه كثيرا ما تبوء بالفشل, لأنه حكم عليك قبل أن يحكم على فكرتك, بل يجيبك دون أن يسمعك و ينتقدك على شيء لم تقوله (يذكرني هذا بحوار الفريق أحمد شفيق مع الدكتور الأسواني @11:50). يخشى النقد و يتجنبه ويغضب إذا زادت حدته. يأخذ موقف المدافع دون أن تهاجمه. لا يستخدم عقله في الحكم على الأمور, بل القالب الذي صُبَّ داخله. نادرا ما تجده يثني على شيئا لا ينتمي إليه, يتحدث عن المستقبل بلهجة الواثق حتى يعتقد محدثه أنه يدعي النبوة.

ولا تقتصر سطوة الصورة النمطية داخل المجتمع فحسب بل تمتد لتشمل أحكاما شمولية و أفكارة مسبقة ضد لون أو عرق أو جنس, كأن يُتهم السود مثلا بأنهم في درجة أقل تطورا عن البشر البيض, أو أن يتهم الغربيون العرب بأنهم متخلفون أو إرهابيون, أو يتهم الشرقيون الغربيين أنهم دعاة مجون وانحلال أخلاقي.
و في مقال نشره موقع مصراوي بتاريخ 4 أبريل 2011 بعنوان : الإعلامية بثينة كامل تقرر الترشح لرئاسة الجمهورية, أنتقيت هذا التعليق (و قد بحثت كثيرا حلى أنتقي تعليقا لا يحوي ألفاظا يعاقب عليها القانون) : " العملية ظاطت أوي..هو فيه إيه ... هو أي إمعة دلوقتي بقى طمعان يحكم مصر ... مبقاش إلا النسوان كمان ... تعرفوا رأيي إنها بتدور بس على أي فرقعه اعلامية تشهر بيها نفسها ... حاجة بقت تقرف" يكشف هذا التعليق عن مقدار الدونية التي ينظر بها كاتبه إلى المرأة بشكل عام.


الأحد، 3 أبريل 2011

نهلك جميعا أو نحيا جميعا

طاف رجال في جنبات المعبد القديم محذرين سكانه أن الوضع بات خطيرا, تشققت الجدران السميكة, هوت أعمدة الارتكاز. اندفعت الجماهير مكسّرة المتاريس النحاسية, متجاوزة الأبواب العالية التي لم يروا ما خلفها قط إلا في روايات أجدادهم. ازداد سقوط الأحجار كثافة في إشارة إلى قرب النهاية. أحجار تهوي على الرؤوس تصيب من تصيب و تصرع من تصرع. لم يعد هناك وقتا للجدل للعقيم. دويُّ شديد صمًّ الآذان حدث حين ترنّح العمود العظيم الذي في الوسط سقط بعدها سقف المعبد العجوز.. حمدا لله,  قد نجا الجميع اللهم إلا من فضّل البقاء في المعبد متعبدا لأصنامه, سقطت عليهم الأحجار العتيقة, سحقت عظامهم سحقا.

تراطمت المشاعر و تباينت, فرح و حزن, غناء و بكاء, كان البعض سعيدا, ولم لا؟ فقد تنفسوا هواء الحرية لأول مرة, و البعض تعيسا لما فقدوه من ممتلكات و ثروات, و آخرين نجوا بأجسادهم أما أرواحهم فكانت مدفونة هناك تحت الأنقاض.

خرج أهل المدينة "جريء" و "لبيب" و "لئيم" و "خائر" و "حائر" يسيرون في طريق لا يعلمون ملامحه لكنهم يعلمون غايته. مال النهار و سدل الليل أستاره. وضع حائر رأسه على حجر ليغفو قليلا بعد يوم شاق و تأمل النجوم المتلألئة في السماء, شعر بارتياح لكن عندما آلمه ظهره تذكر سريره الناعم الذي تركه و تمنى لو كان مستلقيا عليه. آنذاك كان جريء ممسكا بالشعله ليضيء المكان و لبيب كان يدرس الموقع الذي استقروا فيه حتى يحدد الطريق الذي سوف يسلكونه غدا. أما خائر فقد دخل الخيمة منهوك القوى و قضى هناك ليلته تحت الغطاء.

و مع أول شعاع للصباح أتى لئيم و في يده جوال, استقبله جريء و سأله: أين كنت طوال الليل و لماذا لم تبت معنا؟ فأجابه لئيم بفظاظة "ليس شأنك" و صدمه بجسمه الضخم و تجاوزه. كان اليوم الثاني أصعب من الأول. الشمس حاره و الأرض جافة و الطريق مازال طويلا. وقع خائر على الرمال من شدة الإعياء و العطش, شعر أنه على حافة الموت, قال بصوت ضعيف متقطع :
- ألم أخبركم أن الموت هو مصيرنا؟ يا ليتنا متنا في المعبد على الأقل وجدنا من يعتني بجثثنا.
 أثر كلامه على حائر تأثير سم الحية وأحس بقشعريرة اليأس تدب في كل جسمه.
- خاطب لبيب لئيم قائلا: هلا حملت خائر صديقنا؟ فهو لا يقوى على السير و أنت قوي البنيان. فاعتذر لئيم بأنه مشغول بأعمال أخرى أكثر أهمية.
- قال لبيب: حسنا حسنا سوف أحمله انا, لا ينبغى أن نترك خائر ههنا وحيدا و نسير نحن.
- فتتدخل جريء مقاطعا و قد تلاقت عيناه مع لئيم: لا يا لبيب أنت رجل شيخ, أنا سوف أحمل خائر على كتفي حتى يسترد عافيته.

توارت الشمس خلف الجبال و استردت آخر شعاع لها. كانت الليلة مقمرة لكن الضباب كان كثيفا. ومع حلول الظلام اختفى لئيم كعادته. صمتت كل الأصوات إلا حفيف الأشجار و فحيح الحيات.
- ما هذا الصوت ما هذا الصوت؟!! تسائل حائر
- أجاب لبيب بصوت متزن "هو عواء الذئاب"

لم يلبث خائر أن سمع تلك الكلمات حتى صار كالمجنون, ألقى بنفسه على أرض و أخذ يذري الرمال على رأسه "قد هلكنا قد هلكنا لا محالة لم يعد لدينا طعام و الخيام أخذتها الرياح و الوحوش الجائعة حولنا تنتظر الانقضاض.. آااه أين المعبد أين المعبد القديم, أسواره كانت تحمينا من الذئاب, كنت أجد كل يوم طعامي, قد أهلكتموني, نعم أنت يا لبيب اهلكتنا بغبائك و أنت يا جريء اهلكتنا برعونتك لقد انتهينا و متنا شر ميتة"
تركه لبيب حتى هدأ و كف عويله ثم بدأ يشرح له كيف وجب عليهم الخروج من ذلك المعبد البغيض و أكد له أنه وفقا للحسابات ما هي إلا أيام قليلة حتى يصلوا إلى الأرض التي خرجوا يطلبونها, أما جريء فقد قضى ليله كله يحرس رفقائه من وحوش البرية وطيور الظلام.

عاد لئيم في اليوم التالي و كان جواله مليئا عن آخره تلك المرة. سأله أصدقاءه, "أين كنت طوال الليل" ؟
- كنت أجمع بعض المقتنيات التي قد نحتاجها لاحقا.
- قال لبيب: جوالك مليء الذهب و الجواهر, أليس كذلك؟
- صر لئيم على أسنانه و قال نعم معي ذهب.
- خاطبه لبيب معنفا: كيف تتركنا طول الليل و نحن كدنا نموت أمس جراء الذئاب والوحوش؟ أنت متمرس في شؤون البرية و الجبال كان أجدر بك أن تتعاون معنا بدلا من جمع المجوهرات.
- أجاب لئيم في مكر: هل تظنوني أجمع الذهب لنفسي؟!! لا لا قد أخطأتوا الظن بي. ثم رسم ضحكة خبيثة على شفتيه و لمعت عينيه و قال:  أنا أجمع النقود لخيرنا جميعا, هي نقودنا كلنا.
ثم تركهم و ذهب.

ساروا هم الخمسة في اليوم التالي و قد خيم عليهم الصمت. تعرقل حائر في جزع شجرة و سقط على وجهه. أضائت الرعود السماء و صوت البروق المرعب ملأ الآذان. ظهرت الأشباح و تراقصت أمام أعينهم . ها هو وجه الشيطان القبيح يبدو مبتهجا وسط الأمطار الغزيرة. زلزال عنيف ضرب الأرض تحت أقدامهم و شقها نصفين. شريط ماء يحول بينهم و بين غايتهم. اتسع الشريط و اتسع حتى صار نهر, عبوره يبدو مستحيلا... "لا لا ليس مستحيلا" هكذا صرخ جريء, "ها هو زورق صغير هناك أرسلته العناية الإلهية لنجدتنا" أنطلقوا جيمعا نحوه, سبقهم لئيم و ألقى جواله الثقيل داخل الزورق أولا ثم قفز هو, تبعه جريء ثم لبيب فحائر و لما وضع خائر قدمه داخل الزورق بدأت المياه تتسلل إلى داخله, سحبها ثم حاول ثانية لكن لا جدوى. نظر جميعهم إلى لئيم و إلى جواله. فصاح فيهم غاضبا: "ما بالكم تنظرون إلى جوالي؟! لا لن ألقيه أبدا"
- "الزورق صغيرا لا يحملنا نحن و جوالك لابد أن تلقه في الماء" قال لبيب.
- لا. لن يحدث. خائر هو من سيُغرق الزورق هو من لابد أن يلقى في الماء.
استشاط جريء حنقا من أنانية لئيم و قفز فوقه و تلاكم الاثنان و تصارعا. فوقف لبيب على رأس الزورق و صاح فيهم "يكفــــــــــــــي". ألتفتت كل الأنظار نحوه ففتح فاه و قال لهم: " قد كنا جميعا رهن الموت داخل المعبد القديم و قد نجونا بأعجوبة والآن, إما أن نهلك جميعا أو نحيا جميعا" .