السبت، 21 يوليو 2012

التديُّن في بلادي ..


ثمة سؤال يردده الكثيرون, لماذا لاتزال الكراهية بين الجماعات مستمرة رغم أن الأديان الكبرى التي يعتنقها معظم سكان العالم تدعو للتسامح والتعايش والإخاء؟
وحيث أن الأديان الكبرى تحث الناس على قبول الآخر يكون من المنطقي أن نفترض أن الذين يدينون بأحد تلك العقائد أكثر تسامحا تجاه الجماعات الخارجية مقارنة بأولئك الذين ليس لهم إنتماءات دينية .. لكن الواقع يبدو منافيا لذلك.

هذه الملاحظة أثارت مجموعة من الباحثين قادهم عالِم النفس الإجتماعي دانيال باتسون, وقاموا بمراجعة عشرات الأبحاث أجريت في النصف الأخير من القرن الماضي عن العلاقة بين التديُّن والتعصُّب, وجاءت معظم النتائج تؤيد الملاحظة عينها.

وهكذا وُجِدت علاقة إحصائية طردية (وليست بالضرورة سببية) تربط بين التديُّن في مجمله والتعصُّب. وهكذا ظلّت العلاقة موجودة إلى أن ميّز عالِم النفس الأمريكي جوردون آلبورت بين نوعين من التديُّن, الجوهري والظاهري, وطوّر - هو ومن سار على نهجه - هذا التمييز في أبحاثه اللاحقة, التي أشارت نتائجها إلى ارتفاع نسبة التعصّب بين المتدينين ظاهريا بينما تبدو النسبة عادية بين المتدينين جوهريا.

وعرًّف آلبورت تلك التوجهات الدينية كالآتي:

•  التوجه الديني الجوهري (Intrinsic Religious Orientation): يميز حياة الشخص المتعمق في عقيدته الدينية دون تحفظات, والشخص الذي له تلك الطبيعية يعمل على خدمة الدين بدلا من أن يُسخّر الدين لخدمته.

• التوجه الديني الظاهري (Extrinsic Religious Orientation): هي النظرة إلى الدين باعتباره نمطا أو شكلا لخدمة الذات وحمايتها ولتحقيق المنفعة الشخصية.



ولخّص آلبورت الفرق بين التوجهين في عبارة: "الشخص المتديِّن جوهريا يعيش دينه, والمتديِّن ظاهريا يستغل دينه".

* * *

أعود مرة أخرى إلى وطني, وأتذكر تلك المقولة الشهيرة "احنا شعب متديّن" , وفي ضوء تعريف آلبورت الذي أنقذ "التديُّن" من تهمة كادت أن تُلصق به باطلا, أتوقف قليلا وأتسائل, هل التديُّن السائد في مصر جوهري أم ظاهري؟ .. أم كلاهما؟

بكلمات أخرى, هل التديُّن السائد في مصر عقيدة راسخة يعيشها معتنقها أم نمطا وشكلا وعقيدة تُسخّر لمنفعة صاحبها؟

تبدو الإجابة ليست سهلة, وأن خطا رفيعا يفصل بين الأمرين ولذلك يكون القول الفصل ليس بالأمر الهين, لكن دعنا نتفق أولا أن الشروط الظاهرة للتديُّن مستوفاه, فعلى المستوى النظري أكثر من 99% من المصريين لديهم انتماء ديني معلن وعلى المستوى العملي تجد أن الغالبية العظمى ملتزمون بالأصوام في مواقيتها وأداء الصلوات والاتزام بطقوسها ومن يختلف عن ذلك يبدو شاذا وتجده يسوق التبريرات لنفسه وذلك لخروجه عن المألوف.

الأمر الصعب هو الحكم على التدين الجوهري لأنه في طبيعته باطني, ولهذا استعيض عن ذلك بالحكم على  نتائج هذا التدين وفي ذلك اخترت ثلاثة معايير:

•  المعيار الاقتصادي:

الأديان الغالبة في مصر تحض على التكافل الاجتماعي ومساعدة الفقراء, وحيث أننا شعب "متديّن" نتوقع ألا نجد هوّة سحيقة بين الأغنياء والفقراء, لكن الواقع يخبرنا بخلاف ذلك. ففي مصر تجد الغناء الفاحش بجوار الفقر المدقع. أمتار قليلة تفصل ما بين ساكن القصر وساكن العِشّة. في نفس الشارع تسير العربات الفارهة ويستجدي معوزين القوت.


•  المعيار الأخلاقي / الجنسي:

الأديان في مصر تعلّم بغض البصر, وبساطة العين, والتعفف والإلتزام الأخلاقي. فنتوقع أن يسود المجتمع المصري الملتزم دينيا جميع تلك القيم الجميلة اللهم إلا قلة قليلة فاسدة موجودة في كل مجتمع, لكن الواقع يخبرنا أن الوضع في مصر معكوس!

في دراسة أجراها المعهد القومي لحقوق المرأة عن "سرطان" التحرش الجنسي في مصر جاءت النتائج كالتالي: 83% من النساء المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي, أكثر من نصفهم بشكل يومي. 98% من النساء الأجنبيات يتعرضن للتحرش الجنسي. حوالي ثلثي الرجال المصريين أقرّوا بتحرشهم بالنساء .. هذا على مستوى "الشارع" المعلن فماذا عن الخفاء؟ تنافس مصر على المراكز الخمسة الأولى عالميا في البحث عن المحتوى الإباحي على الانترنت, بالرغم أن مثل هذا الفعل مُحرَّم دينيا.


•  معيار التسامح:

بالرغم من أن الأديان في مصر تدعو للتسامح والإخاء, وبالرغم أن المصريين يعيشون معا على نفس الأرض على إختلاف معتقداتهم منذ عشرات القرون من الزمان, إلا أنهم لم يستطيعوا بعد التوصل لصيغة تكفل حرية العقيدة والتسامح مع بعضهم البعض. فها إلى الآن تحصد جرائم العنف الطائفي عشرات الأرواح كل عام. ناهيك عن الكراهية القومية والثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية  لكل مختلف. يكفي هنا مثال المادة الثانية المقترحة من الدستور الجديد التي تجسد التعصّب في أبشع صوره وتجعله قانونا.

هذا كله يسوقني إلى الافتراض مطمئنا أن التديّن السائد في مصر ظاهري, بعيد كل البعد عن التديّن الجوهري. ويبقى السؤال: ما سبب هذا القصور ولماذا تفشى بيننا التديّن الظاهري دون الجوهري؟


 * * *

ما سبب هذا القصور ولماذا تفشى بيننا التديّن الظاهري دون الجوهري؟

مربط الفرس في الإجابة على هذا السؤال تكمن في تعريف آلبورت للتديّن الظاهري, حين قال: المتديّن ظاهريا يستغل دينه.
 وحينما يوفّر المجتمع بيئة تتيح للمتديّن فرصة للتربُّح من كونه متدينا يتحول التديّن تلقائيا عند كثيرين من عقيدة راسخة إلى وسيلة لتحقيق منافع شخصية, بل ويسعى أخرون ليس لهم علاقة بالتدين إلى إرتداء ثوب التدين الظاهري للتمتع بالمميزات التي يمنحها المجتمع لمتردي هذا الثوب.

وفي مصر, تتوافر تلك البيئة المريضة, فتجد المجتمع يمنح ألقابا ترفع من المكانة الإجتماعية للشخص المتدين, وتزيد من قيمته, وتضفي عليه شيئا من الهيبة, وتمنحه ثقة لا تمنحها لغيره لا لسبب إلا أنه تديّن ظاهريا. وتعطيه حق الفصل بين المتخاصمين في شتى الأمور وتمنحه حق الفتوى في ما يعرف وما لا يعرف.

هذا عن البيئة الاجتماعية, أما عن السياسة فحدِّث ولا حرج عن المميزات والحصانات التي تمنحها البيئة السياسية المشوهه للشخص أو الجماعة أو الحزب المتديّن ظاهريا.

لا يتوقف الوضع عند هذا الحد, بل يتطوّر الحال مع الشخص المتديّن ظاهريا, فيغيّر من شكله, وزيّه, وطريقة حديثه, وأسلوب سيره وجلوسه حتى يظهر للمجتمع عيانا بيانا تديّنه الظاهري فينال من الهبات والعطايا التي يمنحها المجتمع له بأقل مجهود ممكن.

ثم يزداد الأمر سوءا بعد سوء, فيحاول ذلك الشخص المتديّن ظاهريا فرض أسلوب تديّنه على غيره, لأنه ينال بذلك كرامة فوق كرامة من مجتمعه المريض فيخضع له ضعاف النفوس ويكون تدينهم إما نفاقا أو خوفا ثم يسير في ذات الدرب الذي سار فيه من سبقه وهكذا دواليك .. ولعل هذا ما قصده راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية حين قال لا نريد تحويل التونسيين إلى منافقين.

* * *

أين الحل إذا؟

لكي نصل لحل لابد أن نعرف مصدر المشكلة أولا .. قناعتي الشخصية, أن سلوك المرء المتديّن لا يحدده دينه بل فهمه لدينه. فكم من أولياء صالحين وقديسين فهموا الدين وساروا على نهجه وتعاليمه ووصلوا لأعلى درجات التقوى. وكم من حروب اندلعت ودماء بريئة اُريقت ظن سافكيها أنهم فاهمين الدين دون غيرهم وخادمين له.

المشكلة إذا في تكمن في الفهم, أي في العقل. والعقل المصري المسكين شب وشاب على الاستبداد والاستعباد, حُرِمَ العمل عنوة وفرضت عليه الأراء فرضا. عقلٌ مستهلِك غير منتِج. تسَلّط عليه الجهلاء فبات لا يعرف إلا ما يريد له سلاطينه أن يعرف.

تقدم إذن نحو المرآه وأشر لرأسك وقل: هنا تكمن المشكلة وهنا يكمن الحل.




هناك تعليقان (2):

  1. Chapeau اصبت حقيقي.. مفتقدين التفسير العلمي اللي علي اساسه نبني الحل العلمي :)

    ردحذف
  2. قضية أساسية لابد من حلهابالرجوع الى خالقنا حتى يصلح أحوالنا

    ردحذف